انتظر الحاضرون الدكتور يوسف إدريس فى حفل عيد ميلاد الكاتب محمود سالم، حتى وصل بعد الساعة الواحدة صباحا، وكان المثقف والكاتب اللامع الطبيب المشهور الدكتور محمد أبوالغار ضمن الحضور، ويشهد فى مقاله «رحيل الكاتب المبهر محمود سالم - المصرى اليوم - 4 مارس 2013»: «كان حضوره مثيرا للضوء والوهج الذى كان يصاحبه دائما، واعتلى كرسيا فور وصوله ومنه صعد على منصة عالية، وانطلق يخطب فى الحضور عن الحياة وفلسفتها، وبعد خمس دقائق مضت أعلن أنه يودع الجميع فردا فردا لأنه يعرف بوجدانه أن عمره قد قارب على الانتهاء، وأنه لن يرى أيا من الحضور بعد ذلك، واعترض الطيب صالح- روائى سودانى- بشدة، وألقى أبياتا من شعر قديم عن أن ما يقوله إدريس محض خيال أديب، ودعا له بطول العمر، لكن يوسف فى حقيقة الأمر رحل عن عالمنا فى نفس الأسبوع».
توفى يوم 1 أغسطس «مثل هذا اليوم عام 1991»، وحسب أبوالغار: «كان مافعله أمرا مذهلا، ويثير الكثير عن غموض هذه الحياة»، لكنه يضعنا بطريقة ما فى قلب سؤال الكاتب الصحفى الروائى محسن عبدالعزيز بعد 17 عاما من رحيله: «هل كان يوسف إدريس إنسانا من لحم ودم عاش بيننا، وهل كتب عليه ما كتب على الناس من حياة ومرض وموت؟.. إذا كانت الإجابة: نعم.. فمن إذن هذا الإنسان الأسطورى الذى تروى الحكايات عن عبقريته، وطلعته، وجنونه، وعظمته، وشجاعته، وتمرده، وموهبته، ويحمل نفس الاسم والعيون الزرقاء والقامة المديدة والكبرياء التى لا حد لها؟.. الأهرام «26 مايو 2016».
هو حسب شهادة الميلاد: مواليد 19 مايو 1927 فى قرية «البيروم بمحافظة الشرقية لأسرة من متوسطى المزارعين تضم متعلمين أزهريين، وتعلم فى المدارس الحكومية، وتخرج فى كلية الطب جامعة القاهرة عام 1951، وعمل فى المستشفيات الحكومية، وكان مفتشا فى الدرب الأحمر.. أما حسب شهادة الإبداع فيذكرالكاتب والناقد شعبان يوسف فى «ضحايا يوسف إدريس»: «برز بشكل لافت، ولا يباريه أحد بشكل من الأشكال فى هذا الحضور، عندما قدمه عبدالرحمن الخميسى فى جريدة «المصرى» عام 1952.. وكانت مجموعته «أرخص الليالى» البوابة الكبرى التى دخل منها إلى ساحة المجد، وعندها توقف نقاد كثيرون، وكتبوا مقالات ودراسات، وعقدوا ندوات ومناقشات، وبدأت الدولة نفسها تلتفت لهذا الصوت الذى صعد من بين كافة الكتاب بهذا الشكل العملاق، فيوسف إدريس ذو السبعة والعشرين عاما، استطاع أن يهز عرش الثقافة فى ضربة زمنية قياسية».
كانت «أرخص الليالى» عنوانا لمبدع استثنائى «أنزل الأدب من أبراجه العاجية إلى براح الحياة وحركة الناس والشوارع والناس وآلام البشر وطموحاتهم، وأحلامهم العادية، وتفاصيل حياتهم التى تكشف أحلام الإنسان وإحباطاته أيضا» وفقا لمحسن عبدالعزيز.. و«جمع فى ذلك ببراعته الأدبية العديد من المتناقضات، أدخل العامية فى الفصحى، ومزج بين ذوق النخبة والحس الشعبى، وتعرض للجنس دون أن يسقط فى الابتذال، وانتزع أشكاله الفنية من براثن الفطرة»، حسب غالى شكرى فى «مجلة العربى - الكويت - أكتوبر 1991».. وبوصف أحمد عباس صالح فى مذكراته: «كانت قدرته على الإلمام بالأماكن والشكل الخارجى للأشخاص قوية جدا، وكأنه آلة تصوير شديدة الحساسية، لا تغفل شيئا مهما فى الصورة.. وكان جزءا كبيرا من معرفته أو ثقافته يرجع إلى الحياة ذاتها فى الشارع أو القرية أو المدينة، فقد كان شغوفا بمخالطة الناس، وخاصة الطبقات الشعبية، وكثيرا ما كان يخرج من مبنى كلية الطب قصر العينى ليقضى بعض الوقت فى حى المواردى الشعبى بالقرب من الكلية وعلى مقاهيه تعلم أشياء كثيرة».
أبدع فى التأليف المسرحى، والرواية القصيرة، والمقال الصحفى، وفجر مقاله الأسبوعى فى «الأهرام»، معارك سياسية وفكرية كثيرة، لكن تبقى «القصة القصيرة» ميدانه الذى جعله فى نظر نقاد «تشيخوف العرب»، نسبة إلى الروائى الروسى، ويجيب هو عن سؤال، لماذا اختارها؟»: «اخترتها لأنى أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغر بحرا فى قطرة، وأن أمرر جملا من ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إننى كالحاوى الذى يملك حبلا طوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذى يريد.. القصة القصيرة طريقتى فى التفكير ووسيلتى لفهم نفسى والإطار الذى أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذى وجدنى ولم أجده».
كان إبداعه بوصف محمد المخزنجى: «خلاصة كائن شديد النزوع للحرية الخلاقة، إبداعيا، ووطنيا، وإنسانيا، ومن هنا بالضبط تولدت آلامه عبر الاصطدام المتكرر بالعبيد ومكرسى العبودية، ولأن ذلك كذلك، فإننى أفهم صرخته «إن كل الحرية المتاحة فى العالم العربى لا تكفى كاتبا واحدا لممارسة فعل كتابته بالجسارة التى يحلم بها.. لم يكن يوسف إدريس يحلم بالجسارة فقط، بل كان يحيا بها، إبداعيا وحياتيا، وكان لا يكف عن دفع الثمن الباهظ مقابل العيش بهذه الجسارة».. «مقال - قصة وراءها قصة - الأهرام - 16 مايو 2014».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة