خرج المفكر والكاتب عباس العقاد من السجن فتوجه مباشرة إلى ضريح سعد زغلول يوم 8 يوليو «مثل هذا اليوم 1931»، تنفيذا لوعد قطعه على نفسه وهو يخطو خطوته الأولى فى أرض سجن مصر العمومى، حسب تأكيده فى مذكراته «أنا»، مشيرا إلى أن النائب العام حقق معه لساعات يوم 14 أكتوبر 1930 فى قضية «العيب فى الذات الملكية» ويؤكد: «استغرق التحقيق ساعات، ثم قال لى حضرة المحقق: «إننى آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلا يا أستاذ»، وامتد الإبقاء حتى قضت المحكمة بسجنه ليواصل.
يكشف «العقاد» طبيعة مشاعره فور دخوله السجن قائلا: «خطر لى وأنا أخطو الخطوة الأولى فى أرض السجن، قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة: «دخولى باليقين بلا امتراء.. وكل الشك فى أمر الخروج».. فهاهو ذا يقين لاشك فيه، وأما الشك كل الشك فهو أمر الخروج متى يكون، وإلى أين يكون؟ إلى رجعة قريبة من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟. فى تلك اللحظة عاهدت نفسى لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتى الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك.. أى إلى ضريح سعد زغلول».
جاء اتهامه، بسبب مقالات كتبها «العقاد» فى جريدة «كوكب الشرق»، وملأها طعنا فى الملك فؤاد وحاشيته محملا إياه مسؤولية الانقلاب على الدستور، وفقا لما يذكره الدكتور «راسم الجمال» فى كتابه «عباس العقاد فى تاريخ الصحافة المصرية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، موضحا أن قصة هذا الانقلاب تبدأ من قرار الملك بتعطيل الحياة النيابية وإلغاء العمل بدستور 1923، فذهب مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد إلى مجلس النواب لإعلان استقالة وزارته يوم 17 يونيو 1931، وفور إعلان الاستقالة وقف العقاد وكان نائبا عن الوفد، صائحا: «ألا ليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته»، وقوبل هذا التهديد بتصفيق حاد من النواب مما جعل رئيسه أحمد باشا ماهر يعترض مضطربا: «ما هذا يا أستاذ عباس، أنا لا أسمح بمثل هذا الكلام»، ولكن العقاد أصر على موقفه.
بعد هذه الجلسة، بدأ حملة عنيفة ضد الملك وحاشيته، ووفقا للجمال: «كتب مقالات نارية فى صحيفتى «كوكب الشرق» و«المؤيد الجديد»، وحرصت السلطات على استغلال هذه الفرصة إلى أبعد حد، ومضت تراجع المقالات بدقة لكى تستجمع منها الأدلة الكافية لتقديمه إلى المحاكمة بتهمة «العيب فى الذات الملكية»، واستدعاه النائب العام للتحقيق، وكذلك محمد فهمى الخضرى صاحب ومدير «المؤيد الجديد»، وتقرر احتجازه بعد التحقيق وانتقل إلى السجن، وبدأت محاكمته فى 8 ديسمبر 1930 حسب «الجمال» مضيفا: «اكتظت قاعة المحكمة بالجمهور بالإضافة إلى الزحام خارجها، وطلب مكرم عبيد الذى تولى الدفاع عن العقاد يعاونه محمود سليمان غنام التأجيل للاطلاع، وفى يوم 31 ديسمبر احتشد الجمهور داخل قاعة محكمة جنايات مصر وخارجها، وقضت بحبس المتهم محمود فهمى الخضرى ستة أشهر حبسا بسيطا، وحبس المتهم عباس محمود العقاد تسعة أشهر حبسا بسيطا، وفور النطق بالحكم خيم الصمت التام، وانصرف الجميع فى سكون وهدوء».
يذكر مصطفى النحاس فى مذكراته، تحقيق وتعليق «أحمد عز الدين»: «قام على ماهر وزير الحقانية (العدل) فى وزارة صدقى باشا بزيارته فى سجنه، لكنه رفض أن يرد تحيته بل استقبله وهو مستلق على سريره ومد رجليه فى وجهه، حيث اعتقد أنه جاء متشفيا فيه»، وفور مغادرته وحسب راسم الجمال: «قصد من فوره إلى قبر سعد زغلول، ووقف وسط الجمهور المحتشد وألقى قصيدة جدد فيها العهد على الثبات على مبدئه وموقفه قال فيها: وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة.. فما كل ليل حين يغشاك مرقد.. وماغيبتنى ظلمة السجن عن سنا.. من الرأى يتلو فرقدا منه فرقد.. عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما.. سيعهدنى كل كما كان يعهد».
يستخلص «الجمال» من القصيدة أن العقاد «عقد العزم على الثبات على موقفه الذى كان عليه قبل سجنه، وأنه وطن نفسه على الاستمرار فى عدائه للملك وفى تأييده للوفد، بيد أن ذلك لم يحدث، وإنما حدث العكس، فقد شهدت الفترة التى أعقبت خروجه من سجنه تحولا خطيرا فى موقفه، فقد لاذ إزاء الملك فؤاد بالصمت التام، ولم يعد يذكره مطلقا فى كتاباته الصحفية، وظل على موقفه هذا حتى وفاة الملك يوم 28 أبريل 1936، ولا يستثنى من ذلك إلا مقال أو مقالان ذكر فيها الملك عرضا، أما موقفه من حزب الوفد بعد خروجه من السجن فحدث فيه تحول كبير بسبب خلاف بينهما، جعله يفكر فى تركه والاستقلال عن جميع الأحزاب».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة