بدأت الضربة العسكرية الغربية للنظام السورى وانتهت ولم تخيب آمال المراقبين لتكون بالفعل مجرد ضربة عسكرية محدودة، ليس لها تأثير فعلى على الأرض على المدى البعيد فى الصراع الدائر هناك، ولعل من وجهوا الضربة أنفسهم يعلمون أنها ضربة لن تؤثر على المدى البعيد، لكنها مجرد "استعراض" عسكرى فى قلب دمشق، لن يغير كثيرا من واقع المأساة السورية المستمرة منذ سبع سنوات.
السؤال المطروح اليوم لماذا قامت هذه الدول اليوم بالاشتراك فى هذه الضربة العسكرية؟، هذا ما تحاول السطور التالية الإجابة عليه..
الولايات المتحدة الأمريكية:
انتشار أمريكى فعلى على الأرض
حين عزم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا فى عام 2013، انتقده دونالد ترامب وقتها فى عدد من التغريدات القاسية، لكن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نفسه وجه حتى اليوم ضربتين عسكريتين مباشرتين إلى النظام السورى، بخلاف بالطبع التواجد العسكرى فى شمال وجنوب سوريا من خلال قواعد عسكرية، وبحسب وكالة الأنباء الروسية فإن عدد الجنود الأمريكيين الموجودين على الأراضى السورية يقترب من 2000 عسكرى أمريكى، جلهم دخلوا إلى الأراضى السورية فى عهد الرئيس ترامب.
قوات أمريكية فى مدينة منبج شمال سوريا
ترامب الغارق وسط العاصفة يبحث عن قارب نجاة عبر سوريا
بعيدا عن "الموقف الأخلاقى" المرفوع فإن الضربات العسكرية للأراضى السورية تفيد ترامب على مستويين، الأول هو التأكيد على أنه لا علاقة له مباشرة بالروس، وأنه لم يكن متواطئا مع عملية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية، وهى الفضيحة التى تهز أرجاء الولايات المتحدة منذ أشهر، الأمر الذى يجعله يتخذ العديد من المواقف الحادة ضد بوتين، بل وتهديده بـ "الصواريخ الجميلة والذكية" القادمة إلى الأراضى السورية.
ترامب فى العاصفة كما صورته التايم الأمريكية
أما المستوى الثانى فإن ترامب أن يخلق انتصارات فى أى من الملفات، خاصة فى ظل أزمات تلاحقه بالداخل، كان آخرها اقتحام عناصر الـ"FBI"، ومصادرة مستندات متعلقة بترامب من مكتب محاميه، وهو الأمر الذى قالت مصادر لـ"CNN" إنه سيطر على اجتماعه مع القادة العسكريين لبحث الخيارات المتاحة للهجوم على سوريا، وأنه كان غاضبا خلال الاجتماع من عملية المداهمة على خلفية التحقيق فى علاقة ترامب بممثلة إباحية.
الحالة العاصفة التى يمر بها ترامب فى الداخل، لا يمكن أن يعبر عنها أكثر من غلاف مجلة التايم الأمريكية، التى صورت الرئيس الأمريكى جالسا وسط عاصفة تضرب مكتبه البيضاوى.
الغارات تضيء سماء دمشق
الاستقالات تكشف مستوى الهشاشة داخل نظام ترامب والضربة تغطيه
أما إدارة ترامب تمر بمعاناة نادرا ما عانى منها رئيس أمريكى، خاصة فى ظل موجة ضخمة من الاستقالات فى وسط فريقه المعاون، كان آخرها استقالة توم بوسيرت مستشار الرئيس الأمريكى للأمن الداخلى، ليصبح عدد المسئولين الذين استقالوا أو تم إقالتهم من فريق ترامب 30 مسئولا، والكثيرون من هؤلاء المسئولين أصلا لم يكتفوا باستقالة صامتة.
المملكة المتحدة:
حرب الجواسيس تعود من جديد
اندلعت الحرب الباردة مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين خطب رئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل محذرا من مخاطر أطماع الرئيس السوفيتى جوزيف ستالين التوسعية التى لا تختلف كثيرا عن أطماع الزعيم الألمانى أدلوف هتلر.
الرئيس الروسى وينستون تشرشل كان أول من استخدم مصطلح الحرب الباردة
لكن بريطانيا اليوم لا تبدو مطلقا مثل بريطانيا وينستون تشرشل والتى كانت ما تزال الأمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وجدت بريطانيا نفسها أمام عملية استخباراتية معقدة تمت على أرضها عن طريق محاولة اغتيال الجاسوس الروسى السابق سيرغى سكيربل، والذى عمل لصالح البريطانيين من قبل، وذلك باستخدام "غاز الأعصاب".
كيماوى لندن يتلقى الرد فى سوريا بسبب كيماوى فى دوما
لكن سكيربل والذى على ما يبدو نجا وابنته من الموت، ليس محظوظا بقدر جاسوس آخر هو ألكسندر ليتفينينكو الذى تعرض للاغتيال باستخدام مادة البلوتونيوم المشع فى عام 2006 بوسط العاصمة البريطانية لندن، وأثبتت التحقيقات البريطانية التى انتهت فى عام 2016 أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين هو من أمر شخصيا بقتله.
الجاسوس الروسى وابنته محاولة اغتيال بغاز الأعصاب فى وسط لندن
وخلال الحرب الباردة عرفت البلدين ما عرف بحرب اغتيال الجواسيس، حيث خاضت بريطانيا وروسيا حرب شرسة تبادلا فيها اغتيال الجواسيس السابقين، ولكن لأن عصر الحرب الباردة انتهت، والجواسيس التقليديين صاروا شيئا من الماضى، فإن ضربة عسكرية لحليف روسى تبدو انتقاما مناسبا ومأمون الجوانب، تماما كما كانت الحرب الباردة، لا مواجهة مباشرة، فقط حروب على أراضى الشعوب الفقيرة تبدو لعبة جميلة وآمنة.
اشخاص سوريين يتلقون العلاج مما قيل انه هجوم بالكيماوى
الجمهورية الفرنسية:
ماكرون من غير مبالى بـ"الأسد" إلى "صاحب خطوط حمراء"
فى بداية فترة حكمه أدلى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بتصريحات صدمت الكثيرين حين قال إنه لا يرى بديلا شرعيا للرئيس بشار الأسد، معتبرا أن رحيل بشار الأسد ليس شرطا لإنهاء الصراع المأساوى فى سوريا، ومنبع الصدمة أن هذا كان بمثابة تغييرا كبيرا فى الموقف الفرنسى المعلن فى زمن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، والذى كان ماكرون عضوا فى حكومته.
لكن وفى مايو من عام 2017، وبعد هجوم خان شيخون قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، إن استخدام "الكيماوى" سيعتبر خطا أحمر سيلزم فرنسا بالتدخل والرد، مستخدما نفس العبارة التى استخدمها من قبل الرئيس الأمريكى بشار الأسد والذى اعتبر "الكيماوى" وأى استخدام له خطا أمر فى سوريا.
ايمانويل ماكرون
حدث عمره 230 عاما تقف وراء ضربة عسكرية فى سوريا
يمكن تفسير الموقف الفرنسى المتغير ببساطة إذا ما نظرنا للأرث الثقافى الفرنسى يعتبر الدولة الفرنسية ذات مسئولية عالمية عن حماية "حقوق الإنسان" والحريات، على اعتبار أنها البلدة التى خرجت منها الثورة الفرنسية التى غيرت شكل العالم، وهى أيضا الدولة صاحبة أول إعلان لحقوق الإنسان فى العالم.
الثورة الفرنسية
لا يبدو الأمر مجرد اعتزاز قومى بسيط لدى الفرنسيين، بالعكس فإن هذا الموقف دائما ما يحدد الكثير من المواقف السياسية للفرنسيين فى ملفات خارجية كثيرة سواء سلبا أو إيجابا، بداية من الموقف القوى للرئيس الفرنسى السابق شارل ديجول من تأييد للموقف العربى إبان حرب عام 1967، حتى أن الحال وصل به إلى إرسال رسائل مواساة لجمال عبد الناصر بعد الهزيمة، بحسب ابنة الزعيم الراحل هدى عبد الناصر، والتى كشفت عن تلك الرسائل فى مقال صحفى نشر عام 2009.
وهناك أيضا موقف الرئيس الفرنسى جاك شيراك الذى رفض الاشتراك فى غزو العراق، أو موقف الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى من التدخل العسكرى فى ليبيا عام 2011 حيث كان أكبر الداعمين للتدخل الغربى فى ليبيا، وكانت قواته القوام الأكبر من قوات حلف الناتو فى ليبيا، بغض النظر عن صداقته الطويلة مع الرئيس الليبى معمر القذافى.
الملفات الخارجية .. هروب منخفض التكاليف من الأزمات الداخلية
الملفات الخارجية أيضا تبدو مهربا جيدا من الأزمات الداخلية، فتماما كما الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يمر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بأزمة داخلية تتزايد يوما بعد آخر فى فرنسا، فقد انتشرت موجة من الاضرابات فى أنحاء فرنسا، اعتراضا على مشروع "قانون إصلاح الخدمة العامة" وهى الاضرابات التى تسببت فى اضطرابات شديدة فى جداول تشغيل السكة الحديد، والطيران، وجعلت الشركة القائمة على تشغيل برج "إيفل" إلى الإعلان عن إغلاقه بداية من أمس الجمعة، كما كبدت خسائر لشركة الطيران الفرنسية بلغت 170 مليون يورو، حسب بيان الشركة، و123 مليون يورو لشركات السكك الحديدية.
الأزمة لا تتوقف فقط عند قانون إصلاح الخدمة العامة، فهناك اضطرابات تعم فرنسا منذ 3 سنوات بسبب قانون العمل الجديد، شملت مظاهرات وأعمال شغب واسعة من حين لآخر على هامش المظاهرات التى تنظمها النقابات، كما أن الفلاحين أيضا غاضبون من إيمانويل ماكرون، فقد تعرض الرئيس الفرنسى للإحراج الشديد خلال زيارته للمعرض الزراعى، وتم قذفه بالبيض، وهاجمه الموجودون فى المعرض، وهو ليس بالأمر الهين، فالمعرض الزراعى حدث فرنسى هام يحرص الرؤساء الفرنسيين على زيارته كل عام، بل وقضاء وقت يقترب من 5 ساعات فى أرجاء هذا المعرض، إلا أن ماكرون بعد الهجوم انتهى به الحال إلى مغادرة المعرض بعد نصف ساعة فقط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة