تعرف الرهبنة القبطية بالموت عن العالم، وبدء حياة جديدة مع الله، فالراهب حين يرتدي جلباب الرهبنة الأسود تصلى عليه صلوات الموتى، ويتغير اسمه بالميلاد ليتسمى باسم قبطى أو يونانى، وتنقع صلته بحياته السابقة، وهى الصلة التى لا يمكن أن تنقطع دون التنازل عن أمواله سواء التى ورثها من عائلته، أو التى جمعها من عمله ما قبل الرهبنة، فالرهبان فقراء متساوون أمام الله لا فرق بين غنى وفقير إلا بالخدمة، ففى قلب الدير لا يمكنك أن تستدل عن حياتهم السابقة ولا مستواهم الاجتماعى ولا التعليمى بل أن الرهبان يعتبرون الخوض فى سيرة حياتهم الأولى من جراء النبش فى الماضى فيتعاملون مع تلك الأسئلة بتحفظ إلا إذا ارتبط عملهم فى الدير بدراستهم مثلًا، فلا بد أن تربط بين من يفحص المرضى فى عيادة الدير وبين تخصصه الطبى قبل الرهبنة، ولا بد أن تعرف أن من يشرف على كهرباء الدير مهندسًا بالضرورة.
الأنبا مارتيروس: يتنازل الراهب عن ماله لأسرته أو يتبرع به
يقول الأنبا مارتيروس أسقف كنائس شرق السكة الحديد، وهو راهب أيضًا ككل الأساقفة، أن الرهبان يتركون أموالهم قبل الذهاب إلى الدير، يتنازلون عنها لأسرهم بل أن منهم من يقرر أن يهبها للدير الذى سيترهب فيه كنوع من التبرع.
يشير الأنبا مارتيروس إلى أن الراهب يظل تحت الاختبار فترة ما بين العام والثلاث سنوات، يرتدى جلباب أبيض أو أزرق، ويسمى أخ أو راهب تحت الاختبار، وفى تلك الفترة لا يطلب منه التنازل عن ممتلكاته إذ من الممكن أن تكتشف الكنيسة أو يتبين له هو، أن حياة الرهبنة لا تناسبه فيعود عنها إلى حياته الأولى ومن ثم يفضل غالبية الرهبان تسوية أمورهم المالية قبل ارتداء الجلباب الأسود أى قبل طقس رسامة الراهب والذى لا يمكن التراجع عنه بعد ذلك وترك حياة الرهبنة والعودة مرة أخرى للعالم.
التنازل عن المال سمة زرعها الأنبا أنطونيوس
طقوس الرهبنة وممارستها التى تطورت بشكلها المعروف اليوم، تضرب بجذورها فى التاريخ فإذا كانت الرهبنة قد ارتبطت فى الأذهان بالمسيحية، فإن المسيحيين يربطون الرهبنة بالأنبا أنطونيوس الملقب بأبو الرهبان، والذى يعتبره المؤرخون أول راهب فى التاريخ رغم من سبقوه إلى التعبد فى الصحارى ونذر أرواحهم إلى الله ولكن القديس الذى عاش فى القرن الثالث الميلادى قد مثل بحق أول راهب بالمعنى المعروف اليوم رغم التحولات التى طرأت على الرهبنة من عصر إلى عصر، إلا أن جوهر الرهبنة المسيحية هو الذى وضعه الأنبا أنطونيوس وتلاميذه فى البرية الشرقية بجبل القلالى قرب البحر الأحمر، ومن هناك انتقلت حركة الرهبنة إلى العالم كله فى القرون التالية فصار القديس يتسمى بأسماء أجنبية لا تمحى اسمه الأصلى، مثل سان انطونى أو انطونيو، كل ينطقه حسب لغته ولهجته.
للقديس الأنبا أنطونيوس قصة يرويها السنكسار القبطى أو كتاب سير القديسين، وهى أنه ولد فى بلدة تسمى قمن العروس تتبع محافظة بنى سويف حاليا، وذلك فى العام 251 م تقريبًا من والدين غنيين، مات والده فوقف أمام الجثمان يتأمل زوال هذا العالم، وهى اللحظة التى غيرت حياته فيما بعد، حتى إذ دخل ذات يوم الكنيسة سمع الإنجيل يقول: "إن أردت أن تكون كاملًا اذهب وبع كل مالك ووزعه على الفقراء، وتعال اتبعنى" فشعر أنها رسالة شخصية تمس حياته، بعدها عاد "أنطونيوس" إلى أخته الشابة ديوس يعلن لها رغبته فى بيع نصيبه وتوزيعه على الفقراء ليتفرغ للعبادة بزهد.
الأنبا بولا ترك أمواله وارتدى جريد النخل
زهد الأنبا انطونيوس فى المال وتخليه عن أمواله، صار جزءا من سمات الرهبان، وهو الأمر الذى عززته حكاية الأنبا بولا أحد أشهر قديسى الكنيسة ورهبانها، حيث ولد فى مدينة الإسكندرية سنة 228 ميلادية ولما توفى والده ترك له ولأخيه الأكبر بطرس ثروة طائلة، فأراد بطرس أن يغتصب النصيب الأكبر من الميراث، إذ اشتد بينهما الجدل، وأراد الأنبا بولا أن يتوجه إلى القضاء ثم تراجع وقرر الرهبنة فى الصحراء، مكتفيا بثوب من ليف وسعف النخل، وكان يقتات من ثمار النخيل والأعشاب الجبلية أحيانًا، ويرتوى من عين ماء هناك.
من كل تلك الروايات عن الرهبان الأوائل، آباء الكنيسة وحاملى شعلة إيمانها، انتقلت تقاليد المال إلى الكنيسة المعاصرة، فصار التخلى سمة لرهبان الحاضر وآباء التاريخ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة