مع أول خيط للنهار تجدهم يخرجون أفواجا وعائلات يقصدون الشوارع الرئيسية وأماكن تجمعات القمامة بحثا عن المخلفات الصلبة ويتركون خلفهم تلال أخرى بعد نبشهم للصناديق وأخذ ما يحتاجون منها للبيع، إنهم النباشين هكذا سماهم العاملين فى مجال النظافة، ففى كل مهنة نجد مهن أخرى مرتبطة بها، أشبة بالتروس الصغيرة، التى لا يمكن الاستغناء عنهم، لهم من الحكايات والقصص ما يجعلهم أبطال فى سيناريو نظافة مصر، وهو ما دفع الدولة للبحث عن إمكانية دمجهم فى المنظومة الجديدة للنظافة.
فى حوارى مصر وأزقتها البعيدة عن أعين الناظرين، تجدهم يخرجون ويعودون لمنازلهم، التى يحولها لأماكن لفرز ما يجمعوه من زجاجات كنز وزجاج وبلاستك وكارتون، منهم المستجد فى المهنة ومنهم من يعمل منذ سنوات وتوارثها عن آبائه وأجداده، يخوضون معارك يومية مع أصحاب شركات النظافة وموظفى الأحياء لما يخلفوه ورائهم من فوضى تكلف الدولة أموال طائلة، ينتشرون بشكل أكبر فى محافظات بحرى وكلما توغلت فى صعيد مصر تراهم يختفون.
والتقى "اليوم السابع" عددا كبيرا منهم واستمع إلى تفاصيل عملهم والمعوقات التى يقابلونها ورأيهم فى بحث دمجهم فى منظومة النظافة الجديدة وكانت المفاجئة.
فى مصر القديمة وبالتحديد فى منطقة منشية ناصر بالمقطم، تراهم يخرجون مع بزوغ أول خيط للنهار منهم من يعتلى العربة الكارو ومنهم من تطور واشترى تروسيكل، وبينهم مازال يحمل قفة ويجوب بها الشوارع القريبة ليجمع ما يستطيع حمله ثم يعود لبيعها لتاجر أكبر يجمع نوع واحد من المخلفات، فالتخصص هنا مطلوب فلا تجد تاجر يجمع كل الانواع فمن يجمع الكارتون، لا يأخذ الكانز، ومن يحصل على البلاستيك، لا يأخذ المعادن، أنواع عديدة ومختلفة من المخلفات لكن النبيش يجمعها جميعا، وقد يلجأ بعضهم فى تجميع كميات بمنزله تمهيدا لبيعها مرة واحدة.
وعند الطريق الممتد يخبرك عن أكوام القمامة التى تم إزالتها منه، لكن مازالت الرائحة العطنة لتراكمات القمامة متواجدة، لكن الأدخنة المتصاعدة من المدفن الصحى بالمقطم، تؤكد لك أنه ما زال بأسفل الحفرة الممتدة بطول نصف كيلو تقريبًا وبعرض كيلو قمامة يعبث بها أطفال ونساء النبيشة المتناثرين بطول المدفن وبعضهم على حافتها ينتظر قلابات شركة النظافة، وهى تلقى مخلفات القمامة بعد استخدامها فى تصنيع السماد ليلتقطوا منها الأكياس البلاستيك وعلب الكانز وزجاجات المياه وما يتيسر من المخلفات الصلبة.
وقف النباشون يتهامسون فيما بينهم عن سر تواجد الكاميرات فى موقع للقمامة، واقتربوا إلينا فإذا بمحمود وهو أحد النباشين يجمع أصدقائه من الصبية والرجال تعالوا قائلا: "أنا بحب الرئيس السيسى جدًا، دا ريسنا، وإحنا تحت أمر الريس ومش عايزين منه، إلا كل خير، ويسبنا نأكل عيش عندنا عيال ومفيش شغله مناسبة لينا موجهًا كلامه للرئيس: "أنا مش عايز حاجة من الدنيا كل اللى عايزه إنى أكل عيش وأعيش مستور أنا وعيالى والزبالة شغلنتى ونفسى ولادى مايشفوش اللى أنا بشوفه".
أما عنتر حسنين وهو أقدم عامل بينهم يعمل فى المهنة من 40 سنة ينفى أن يكون بينهم مسجلين خطر، قائلًا: "لو فى مسجلين كانوا وقفوا على الطريق يشوفوا عربية مفتوحة يسرقوها، مش يشتغلوا عشان يومية، رافضًا كلمة نبيشة، وأن اللى مسمينا كدا جهله، أحنا شغلتنا الفرز".
ووقف صابر عليوة 42 سنة بلغة المتلعثمة وهندامه البسيط ويداه التى تحمل أسرار كل بيوت مصر من قمامتها، قائلًا: "أنا أب لـ3 أولاد، ودى شغلتى من سنين، وخيرنا رايح لغيرنا وإحنا زمان الحكومة هى اللى كانت تأخذ الشركات دى، والمفروض المحافظة تقوم بإدخال الخير ده ليها بدل ما تيجى شركات تأخذ خيرنا، المفروض إحنا بدل ما نشغل نفسنا كده الحكومة هى اللى تشغلنا ويبقى لينا مرتبات، واللى بطلبه حاجة واحدة إنى إحنا نشتغل بمرتب حلو هنشيل زبالتنا بنفسينا وهننقضها بنفسينا، السماد هيبقى رخيص البلاستيك كل حاجة هتبقى عندنا وبتاعتنا بدل ما نستورده".
الوضع فى محافظات الصعيد مختلف نسبيا عن محافظات بحرى، حيث تستأثر الأحياء التابعة للمحافظات أو شركات النظافة سواء التابعة للجمعيات الأهلية أو الأفراد بالعمل فى جمع المخلفات، وخاصة فى المحافظات الحدودية وذات الطابع السياحى، ويتم التركيز على مخلفات الفنادق، لما تحتويه على الكنز الحقيقى فى القمامة وهو الذى يتم بيعه، ويتم جمع القمامة فى أسيوط من خلال بعض الجمعيات أو جامعى قمامة غير تابعين لأى جهة وهناك النباشين الذين يقومون بجمعها من القمامة بالشوارع وينتشرون فى القرى والمراكز أكثر من المدينة أما بالنسبة للسيدات فلا يعملن فى هذه المهنة ولم يلاحظ عملهن فى مهنة نبش القمامة، وذلك بسبب أنها مهنة صعبة وعادة ما تكون القمامة فى أماكن بعيدة ولها مخاطر تهدر بعض كرامتهن.
وقال صلاح عمر، أحد النباشين، إن معظمهم ينتشر فى المدينة وخاصة مناطق الأبراج ويقومون بجمع القمامة بطريقتين، إما من خلال الاتفاق مع اتحاد الملاك أو خفراء الأبراج السكنية، وخلال الجمع يتم فرزها فى أحد الشوارع بحيث يتم رفع زجاجات البلاستيك، والكانزات، والأوراق فى أجولة لبيعها للتجار المتخصصين، وباقى القمامة والمخلفات العضوية يتم وضعها فى أجولة مختلفة، تسلم لمصنع السماد العضوى بمدينة أسيوط حيث تتم معالجته ليتحول إلى سماد عضوى" كمبوست".
فيما أكد ماهر عبد الله، أحد النباشين، على أن القمامة تدر دخلا كبيرا لهم ويصرفون منه على أسرهم منها، حيث يقومون ببيع المخلفات الصلبة: " أوراق – كانزات – زجاج – حديد " لتجار الخردة الذين يتعاملون مع الشركات الكبرى التى تقوم بتدوير وإعادة تصنيع هذه المخلفات
وعن عمل السيدات معهن قال عبد الله: "ليس لدينا سيدات تنزل الشارع لجمع القمامة لأنها مهنة محفوفة بالمخاطر والتعامل مع الشارع صعب جدا فنحن نواجه العديد من المشكلات أثناء الجمع سواء من السكان أو اثناء توقف تروسيكلات الجمع بالشوارع وتعطيلها الشوارع مؤقتا وغضب البعض من الرائحة وشجارهم معنا لسرعة التحرك كل هذه الأمور تجد المرأة أو السيدة صعوبة فى التعامل معها".
فى سياق متصل، قال سيد سلامة، إن السيدات لا يمكن أن تذهب إلى الأماكن البعيدة وتجمعات القمامة التى عادة ما تكون بعيدة عن العمران حيث من الممكن أن تتعرض لمهاجمة الكلاب أو أحد الأشخاص أو تتعرض للشجار مع أصحاب الأماكن أو الأراضى المجاورة الذين يمنعونا من البحث عن القمامة بدعوى تركهم أكوام القمامة بعد أخذ ما يريدوه وتزيد مساحة القمامة بعد نبشها وفردها على مسطح أكبر بدلا من وضعها بشكل أكوام كما أننا نرفض عمل السيدات حفاظا على كرامتها.
وفى محافظة الأقصر، كانت تنتشر خلال الشهور الماضية مجموعة من نباشين القمامة يتوجهون لأماكن تجمع القمامة فى الليل يوميًا لجلب ما يطلبونه من القمامة، ويقومون بترك الباقى بمشهد مروع فى شوارع المحافظة، الأمر الذى دفع رجال مجالس المدن لشن حملات موسعة على العربات الكارو، والتكاتك الخاصة بالنباشين لمواجهة تلك الأزمة.
وأكد رئيس مدينة الأقصر العميد أيمن الشريف رئيس مدينة الأقصر، على أنه لتلافى تلك الأزمات ومنع ظهور نباشين القمامة من شوارع المدينة تخرج الحملات كل 8 ساعات لنقل كافة القمامة من الصناديق المنتشرة بمختلف أحياء وشوارع المدينة إلى العربات وإرسالها لأماكن تجميع القمامة تمهيدًا للاستفادة منها..
بينما أكد محمد سيد سليمان رئيس مركز إسنا، على أن خطة النظافة شاملة رفع القمامة والمخلفات الصلبة بشوارع المدينة، ومستمرة على مدار اليوم بعمل ثلاث ورديات للنظافة، وتم إزالة مئات الأطنان من القمامة والمخلفات الصلبة من شوارع المحافظة.
أما محافظة البحر الأحمر، فالتخلص من القمامة يتم عن طريق شركة نظافة بنظام التعاقد السنوى، للجمع السكنى، والفنادق السياحية المختلفة، ونظافة الشوارع بمدينة الغردقة وبمرسى علم بتعاقد مع ديوان عام المحافظة التى سلمتها مصنع لتدوير وفرز القمامة بنظام الايجار، من خلال أكثر من 300 عامل يقومون بالعمل طبقا لخريطة معينة، باستخدام سيارات مخصصة لنقلها من المدينة إلى منطقة الفرز غرب مدينة الغردقة خلف الحرفيين، حيث يتم فرز البلاستيكات والكرتون والمعادن الاخرى التى تصلح، وينقل المواد التى سيعاد تدويرها لمصنع تدوير القمامة بالقاهرة لحين الانتهاء من تشغيل مصنع تدوير القمامة الجديد بمدينة الغردقة التابع لمجلس المدينة، ويتم الدفن البيئى الأمن للمرفوضات من القمامة، وسيتم افتتاح مصنع إعادة تدوير المخلفات الجديد بمدينة الغردقة يتم خلال فترات قليلة مقبلة
من جانبه، قال أبو الحجاج العمارى أحد مديرى الفنادق السياحية، إن من الشروط البيئة داخل الفنادق أن تكوون هناك غرفة مخصصة للقمامة داخل كل فندق يتم جمع القمامة بها لحين وصول سيارات شركة النظافة ونقلها، وهى تختلف من فندق لأخر، حيث أن الشركة المتعاقدة معها المحافظة تقوم بجمع القمامة مرة واحدة ثم فرزها فى المكان المخصص لها فى المنطقة الجبلية، وهناك شركات أخرى تقوم بفرز القمامة ونقل ما يحتاجونه من مواد يعاد تدويرها والتخلص من القمامة الاخرى مقابل دفع مبالغ مالية للفندق، وان هناك فنادق تشترط غسيل الغرفة عقب الانتهاء من عملية الفرز والقمامة.
بعدما فرضت المحافظات الحدودية تفاصيل خاصة بها فى التعامل مع القمامة واختفاء مهنة النباشين فى المحافظات السياحية، تفرض الحالة التى آلت إليها المحافظات فى وجه بحرى، وجود هذه الفئة من العمالة المرتبطة بانتشار تراكمات القمامة ففى محافظة الإسكندرية تفاقمت مشكلة "النباشين"، وأصبحت تمثل عقبة أمام منظومة النظافة، وتشويه للشكل الحضارى والجمالى بها
وتصاعد المواجهة بين الأحياء وهذه الفئة، أدى إلى تفاقم الأمر الذى لم يتوقف على نبش القمامة وتشويه الشوارع فقط، بل وصل إلى ممارسة أعمال بلطجة والاعتداء بالأسلحة البيضاء على عمال شركة النظافة التى تعاقدت معها المحافظة ونال أيضا من مسئولى الرصد البيئى بالمحافظة، وتم التنسيق لمرافقة قوات الشرطة لحملات ضبط "الفريزة" والنباشين نظرا لوجود عناصر خطرة يحملون أٍسلحة بيضاء بينهم
من جانبه، قال أحمد شحاتة، مساعد رئيس قطاع الحضارية فى أحد شركات رفع القمامة، إنه تم التنسيق لشن حملات يومية بين الجهات الثلاثة المعنية، الشركة والرصد البيئى بالأحياء ومديرية الأمن من خلال القسم التابع إلى الحى، وتمكنت تلك الحملات من ضبط 90 طنا من القمامة والمخلفات تم التحفظ عليها من النباشين، خاصة إنه تم مهاجمة أوكار تجمعاتهم، وقامت الشركة بتوجيه الكميات المضبوطة إلى مصانع إعادة تدوير القمامة.
أما فى محافظة الشرقية فتصدرت مملكة النباشين بالزقازيق المشهد، بمنطقة منشية السادات، التى تقع فى مربع ضيق امتداد حى القومية من ناحية موقف المنصورة، ويعمل قاطنوها والتى تعود أصولهم الفلسطينية من مهاجرى عرب 48، ويتمركز عملهم اليومى فى مناطق الغشام والقومية، فى جمع المنتجات البلاستيكة، وتربية الخراف على المخلفات العضوية من بواقى المأكولات.
وفى مشهد معتاد للمترددين على محافظة الشرقية ترى الخراف يطلقها أمامهم النباشين للراعى فى أكوام القمامة وفتح الأكياس البلاستيك للبحث عن بواقى الطعام وبعدها يأتى دور النباشين لجمع المنتجات البلاستيكية، والكارتون، والكانز، والمعادن.
ويتوارث المهنة الأجيال فالأطفال منهم يرفض استكمال تعليمة بدعوى أنه يحقق مكاسب تصل 150 جنيها فى أقل من ثلاث إلى أربع ساعات عمل، ويعتبر الأهالى القمامة هى بالنسبة تجارة الذهب، حيث تحقق لهم مكاسب مادية كبيرة، فبعد عودة النباشين إلى منازلهم تبدأ السيدات والبنات من الأسرة بإعادة تصنيف كل نوع كل منها على حدا، تمهيدا لبيعها لكل تاجر متخصص وتجهيزه فى بلات ومنه لمصانع التدوير.
وكانت محافظة الشرقية، وجهت بالتصدى للظاهرة، لما لها من أثر سلبى من انتشار القمامة وبعدم السيطرة عليها، وحررت عشرات المحاضر كما صادرت الخراف، وقبل عدة أشهر بعد اجتماعات متعددة معهم وفرت لهم التعاقد مع أحد الموردين لشراء التروسيكل بدلا من الكاور وبالفعل استجاب البعض ولكن مازال الجزء الأكبر يعمل بنفس الطريقة، فيما يلجأ الكثيرون منهم للعمل فى ساعات متأخرة للهرب من مطاردة الأهالى والحى لهم.
وكشف شحاتة المقدس نقيب الزبالين فى مصر، عن سر أخفاق دمج النباشين فى المنظومة الجديدة للنظافة والمطالبة باستحداث وزارة للنظافة تكون مهمتها النظافة فقط.
وقال المقدس معلقا على أحد المبادرات التى كانت تأخذ المخلفات الصلبة من الأهالى مقابل دفع ثمنها، إنه تسببت فى تصعيد العلاقة بين النباشين، الذين يمتهنون هذه المهنة ولا يعرفون غيرها، والتى كانت بمثابة محاربه لهم فى رزقهم الذى يحصلون، فالبوابين وزوجاتهم كانوا يأخذون المخلفات من السكان ويبعونها لحسابهم، فيأتى النباش يجد القمامة فارغة.
وتابع المقدس: "تسبب الأمر فى مشادات وصلت لخناقات بالأيدى بين النباشين وعمال النظافة والنباشين، فالنباش أكل عيشة ما يجمعه من مخلفات، وفكرة دمجهم فى المنظومة الجديدة، فشلت لأن النباش يحسبها يلف طول اليوم يعمل كم جنيه يعنى طول الشهر يحصل على كم إجمالى، ومن اسسوا شركات ليسوا نباشين وإنما يعملون فى مجال النظافة".
واقترح نقيب الزبالين 7 خطوات كحل إيجابى لتفعيل المنظومة الجديدة للنظافة، تبدأ بإنشاء وزارة للنظافة تكون مسئوليتها النظافة فقط، لأن مسألة القمامة فى مصر مهدر دمها بين 13 جهة، والكل يأخذ قرارات وجميعها يتعارض مع بعضه، مؤكدا أن الوزارة الجديدة، لن تأخذ دعم من الدولة يكفيها فقط أن تأخذ ما يتم جمعة على فواتير الكهرباء من الشقق والمحلات، ثم يتم شراء معدات جديدة بدلا من التى تم إهلاكها وسرقتها فى أعقاب ثورة يناير، وتوظيف اكثر من 3 ملايين عامل نظافة، وتأسيس شركات من عمال النظافة الذين يعملون على أرض الواقع، وتحاسب الحكومة العامل الشقة بـ10 جنيهات، وهو يتعامل مع الواقع ويدمج النباش ابن منطقته الذى يعمل معه ويعرفه جيدا فى مقابل راتب شهرى محترم يوازى الدخل الذى كان يحصل عليه من العمل بشكل فردى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة