يبدو أن قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعدم الترشح لانتخابات رئاسة الحزب الديمقراطى المسيحى، والذى ترأسته منذ عام 2000، سوف يحمل تداعيات كبيرة ليس فقط على مستوى الداخل فى ألمانيا، وإنما قد تمتد إلى أوروبا والغرب بشكل عام، خاصة وأنها أحد أبرز الشخصيات السياسية فى القارة العجوز التى ارتبطت رحلتها السياسية بحلم الحفاظ على الوحدة الأوروبية، بينما حملت على عاتقها لواء حماية المبادئ الغربية التى قامت على احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالإضافة حرية التجارة وغيرها، وهو الأمر الذى ربما يثير تساؤلات كبيرة حول المستقبل ليس فقط فى ألمانيا، ولكن فى أوروبا، فى حقبة ما بعد ميركل.
ولعل انتشار خبر نية المستشارة الألمانية، والتى لم يتردد قطاع كبير من الساسة تلقيبها بـ"المرأة الحديدية" على غرار رئيس الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، بعدم الترشح مجددا لرئاسة حزبها، كان كافيا لانخفاض قيمة العملة الأوروبية الموحدة "اليورو"، وهو ما يحمل إشارة واضحة تعكس أن ارتباط ميركل بأوروبا ربما يفوق ارتباطها بألمانيا، التى جلست فيها على سدة السلطة منذ عام 2005، وهو الأمر الذى ساهم فى تأهيلها لقيادة الاتحاد الأوروبى لسنوات بلغت ذروتها بالتزامن مع وجود الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما.
ميركل تعلن عدم ترشحها مجددا لرئاسة حزبها
صفعة لأوروبا.. قرار ميركل يعزز اليمين فى أوروبا
ابتعاد ميركل عن قيادة حزبها فى المرحلة الراهنة يعد بمثابة صفعة كبيرة للتيار الليبرالى ليس فقط فى برلين، وإنما فى أوروبا بأسرها، خاصة وأن قرارها يتزامن مع الصعود الكبير الذى تشهده تيارات اليمين المتطرف فى كل أنحاء القارة العجوز، ووصولهم إلى سدة السلطة فى العديد من دولها، وعلى رأسهم إيطاليا وهولندا، كما أنه يتزامن كذلك مع وجود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض فى الولايات المتحدة، وهو أحد أكبر المناوئين لفكرة الاتحاد الأوروبى، والتى تعتنقها ميركل وسعت لدعمها منذ بزوغ نجمها على الساحة السياسية فى ألمانيا.
ميركل تحتفل بفوزها برئاسة حزبها لأول مرة
ويعد الانتصار الذى حققه ترامب فى انتخابات الرئاسة الأخيرة، قبل عامين على حساب غريمته الديمقراطية هيلارى كلينتون، كان بمثابة بداية الانصهار للمرأة الحديدية فى ألمانيا، حيث كان صعوده إلى البيت الأبيض فى بداية 2017، بمثابة صفعة كبيرة فى مسيرتها السياسية، حيث كان السبب الرئيسى فى تجريدها من حليفها الأمريكى، خاصة فى عهد أوباما، والذى سعى لتوظيف برلين فى دور حليف الولايات المتحدة الرئيسى فى أوروبا، على حساب حلفاء أمريكا التقليديين فى القارة العجوز وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا، وهى الدول التى كانت فى طليعة حلفاء أمريكا خلال حقبة بوش الإبن، سواء سياسيا أو عسكريا.
ضربة مزدوجة.. ترامب يحقق انتصارا دبلوماسيا جديدا
وهنا يمثل قرار المستشارة الألمانية انتصارا دبلوماسيا جديدا للرئيس ترامب، والذى بدا منذ بداية حقبته غير راضيا عن سياسات ميركل، سواء المتعلقة بدعم الاتحاد الأوروبى أو قبول المهاجرين، فى ظل توقعات يدور معظمها حول صعود أسهم اليمينيين فى برلين لوراثة عرشها فى المرحلة المقبلة، وهو ما يمثل ضربة مزدوجة لصالح الإدارة الأمريكية، على اعتبار الفوز بحليف جديد فى أوروبا معروف بمناوئته للاتحاد الأوروبى من جانب، بالإضافة إلى زيادة حالة الانقسام داخل الكيان الأوروبى الموحد من جانب آخر، وهو ما يمثل أولوية كبيرة فى خطة ترامب لإعادة هيكلة تحالفات بلاده فى أوروبا.
ميركل تحتفل بفوزها برئاسة حزبها لأول مرة
ولم يكتفى الرئيس ترامب بمجرد تقليل الاعتماد على الحليف الألمانى، وإنما سعى إلى تقديم الدعم لليمينيين فى مختلف أنحاء القارة الأوروبية، فى محاولة لحصار دعاة الوحدة الأوروبية، وعلى رأسهم ميركل، كما أنه سعى عبر أذرعه، سواء من الأمريكيين أو حلفاءه بالدول الأخرى، لدعم التيارات اليمينية فى الدول الأخرى، وهو ما ظهر بوضوح فى العديد من الزيارات التى أجراها مستشاره السابق ستيف بانون للعديد من العواصم الأوروبية لدعم التيارات اليمينية والقومية.
ولم تتوقف تحركات ترامب على مجرد دعم اليمينيين، وإنما سعى إلى تهميش دور ألمانيا عبر دبلوماسية تراوحت بين استحداث حلفاء جدد من الدول التى شهدت صعود التيارات اليمينية فيها إلى السلطة، وعلى رأسها إيطاليا، وإحياء تحالفات قديمة، خاصة مع بريطانيا، والتى قررت التمرد على الاتحاد الأوروبى، أو فرنسا، والتى يمثل رئيسها إيمانويل ماكرون غريما لميركل ومنافسا لها على زعامة الاتحاد الأوروبى.
تنحية ميركل.. سقوط الأمل الأخير لإحياء إرث أوباما
ولم يقتصر نجاح الرئيس ترامب فى تنحية المستشارة الألمانية على مجرد تحقيق رؤيته فى أوروبا لإعادة تشكيل تحالفاته بها، وإنما امتد إلى مواصلة طريقه لتقويض إرث سلفه باراك أوباما، والذى كان يرى فى ميركل بمثابة الأمل الأخير فى إبقاء تراثه الدولى الداعم لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتى طالما ما استخدمتها الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين كذريعة للتدخل فى شئون الدول الأخرى، ولتنفيذ رؤيتهم وفرض أجنداتهم على شعوب العالم.
أوباما وميركل
وربما كانت العلاقة القوية بين أوباما وميركل السبب الرئيسى الذى دفع قطاع كبير من الساسة حول العالم للنظر إلى المستشارة الألمانية باعتبارها "قائدة العالم الحر" بعد خروج أوباما من البيت الأبيض، وفشل هيلارى كلينتون فى خلافته، بسبب خسارتها فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى عقدت قبل عامين، وبالتالى فإن قرار ميركل يمثل فرصة للإدارة الحالية، حتى تتمكن من الإسراع فى سياساته الهادفة إلى تقويض إرث أوباما على المستوى الدولى، وهو الأمر الذى بدأته بالفعل فى العديد من القرارات، أهمها الانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى، واتفاقية باريس المناخى، وغيرها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة