البحث عن الحقيقة يحتاج إلى التجرد من الأهواء، والتخلص من الانفعالات، وهاتان قاعدتان مهمتان قبل البحث عن الإجابات الحقيقية على كل الأسئلة التى دارت فى أذهان كثيرين ممن استمعوا إلى أو سمعوا عن التسجيلات الهاتفية المزعومة التى تحدثت عنها جريدة نيويورك تايمز الأمريكية، وتلقفتها بعدها قنوات التنظيم الدولى لجماعة الإخوان، والتى زعمت أنها لمكالمات بين ضابط مصرى فى أحد أجهزة الأمن القومى، وبين 4 من الإعلاميين بينهم الفنانة يسرا، وهدف تلك المكالمات –حسب الصحيفة- هو توجيههم إلى وجهة النظر الرسمية للدولة حول قضية القدس وسيناء.
وسواء كنت ممن استمعت إلى تلك التسجيلات أو لا، فالأسئلة حول الأمر ستبقى واحدة، وستجدها كلها – بعد التخلص من الانفعال والدهشة-، تدور حول عدد من النقاط، أولها هل هذه التسجيلات حقيقية بالفعل، وهل من يتحدث إلى هذه الشخصيات ضابط فعلا أم مجرد شخص منتحل صفة، وهل فعلا تتواصل أجهزة الأمن القومى مع الإعلام والشخصيات العامة، وهل يحدث ذلك فى العالم كله، وما سر إذاعة تلك المكالمات الآن، خاصة أن قضية قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن مدينة القدس، مر عليها شهر، وهى محور كل المكالمات المسجلة؟.
هل تتواصل أجهزة الأمن القومى مع الإعلاميين والشخصيات العامة؟
قد يصيب هذا السؤال كثيرون بالربكة والاضطراب، خاصة من يعتبرون أنفسهم مؤيدون للدولة الوطنية المصرية، ضد محاولات النيل منها ومن استقرارها، لكن الحقيقة أن السؤال بسيط وهادىء للغاية، وليس به أى حساسية مقلقة، وإجابته الواضحة المباشرة القوية "نعم"، فكل أجهزة الأمن القومى على تواصل مستمر بكافة مناطق صناعة القرار والمعلومات والرأى فى مصر، وهذه حقيقة بديهية يدركها كل عاقل، قبل أن تكون سر تكشفه أى صدفة، بل إن الأكثر وضوحا ودقة هو أن كل أجهزة الأمن والاستخبارات فى كل دول العالم على تواصل دائم ووثيق مع الأجهزة الإعلامية فى بلدانها.
مجلة جلوبال ريسيرش
وقبل أن يأتى الدور على السؤال الثانى "لماذا يتم هذا التواصل"، سأحيلك إلى مقال توثيقى للبروفيسور الأمريكى جيمس تراسى، أستاذ الإعلام بجامعة فلوريدا، نشرته مجلة "جلوبال ريسيرش" الدولية للأبحاث، فى نوفمبر الماضى، بعنوان."The CIA and the Media: 50 Facts the World Needs to Know"، أى "الـ سى آى إيه والإعلام.. 50 حقيقة يجب أن يعرفها العالم"، وكشف فيه كيف يشارك جهاز الاستخبارات الأمريكى الإعلام فى توجهاته ومايطرحه على الجمهور من أراء تخص كافة القضايا الكبرى التى تدخل أمريكا طرفا فيها، ويشرح في مقاله كيف زاد هذا التنسيق بين وكالة الاستخبارات والمؤسسات الإعلامية خلال السنوات الأخيرة، وأن الوكالة أنشأت وحدة خاصة داخلها وانفصلت عنها لاحقا تسمى "موكينجبيرد" وهى المسئولة عن التواصل الدائم مع كافة المؤسسات الإعلامية ومدها بالمعلومات والمحاذير والأفكار التى يجب أن يدركها ويعلمها الرأى العام الأمريكى.
رابط المقال فى مجلة جلوبال ريسيرش
واعتقد أن هذا المقال كافٍ للإجابة على السؤالين الأول والثانى، وكل مايخص التواصل بين أجهزة الأمن القومى فى أى دولة وبين وسائلها الإعلامية التى تدخل طرفا وشريكا أساسيا فى حروب الجيل الرابع، ويستخدمها أعداء الدول بشتى الطرق لتفتيت الشعوب والسيطرة على العقل الجمعى للمجتمعات، لتحقيق أهداف عدائية، دون استخدام السلاح والحرب التقليدية، وليس أدل على ذلك من قدرة تنظيم داعش والدول الداعمة له من استقطاب الشباب وصناعة الفكر المتطرف باستخدام الإعلام ووسائله.
هل المكالمات المسجلة حقيقية أم فخ معد مسبقا؟
هذا السؤال يحتاج إلى التأنى والتفكر والإجابة على سؤال أخر، "لماذا لم تحدث تلك المكالمات مع نجوم الإعلام الكبار والأكثر تأثيرا، ولماذا يبدو على الشخصيات المستهدفة عدم معرفتها المسبقة بالشخص الذى يزعم انه ضابط؟، وهل يبدو من الحديث السطحى واللغة الضعيفة أن هذا ضابط فى جهاز أمنى كبير حجم القضية التى يتحدث فيها؟، ولماذا هؤلاء الأشخاص بالتحديد؟، ولماذا تم إخفاء بداية كل المكالمات؟، الإجابة على تلك الأسئلة ستقودك فى تصورى حتما – إن كنت موضوعيا- إلى حقيقة أن الشخص الذى يتحدث فى المكالمات ليس ضابطا، بل هو شخص أعد فخا لهذه الشخصيات لتسجيل تلك المكالمات بهذه الطريقة وإحداث هذه الضجة المفتعلة والمعدة سلفا، ولا استبعد أيضا أن يكون تم استبعاد مكالمات أخرى مع شخصيات أخرى لم تقع فى الفخ، أو لم تستجب للتحدث بهذه الطريقة الساذجة.
كيف يمكنك أن توقع بنفسك الآخرين فى فخ المكالمات المزيفة؟
إذا اتفقنا على أن المكالمات فخا، وأنها ليست حقيقية، سيحيلنا ذلك إلى سؤال اخر، كيف تمكن هذا الشخص من خداعهم، والإجابة على هذه السؤال ستجدها فى الفيديو التالى، وهو واحد من عشرات الفيديوهات المنتشرة على موقع يوتيوب والتى تشرح كيفية خداع الأشخاص عبر الموبايل وتغيير رقم المحمول إلى "رقم مجهول" أو "برايفت" أو حتى إلى رقم شخص عزيز على من تتصل به كالزوج أو الشقيق أو أى صديق.
وبهذه الطريقة ومن خلال أحد هذه التطبيقات الهاتفية الكثيرة والمنتشرة يمكنك خداع أى شخص تريد، ويمكنك تسجيل المكالمات معه ووضعها فى السياق الذى تريده.
هل هذا موقف مصر الواقعى من أزمة فلسطين وسيناء؟
بعد أن تجيب لنفسك على كل الأسئلة السابقة، اسأل نفسك سؤالا آخر، "ما مدى اتساق ما ذكره الشخص المزعوم فى هذه المكالمات مع موقف مصر الرسمى والشعبى من قضية القدس وقضية مواجهة الإرهاب فى سيناء؟".
وكيف يكون ما حاول ذلك المجهول تمريره من أن مصر تعتبر قضية القدس أمرا واقعا، رغم أنها الدولة الوحيدة التى لم تيأس فى الحصول على قرار دولى ضد أمريكا، فى مجلس الأمن والأمم المتحدة، وحصلت عليه بالفعل بعد أن تقدمت مصر بمشروع قرار يدين القرار الأمريكى باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
أما فيما يخص حماس، فاسأل نفسك، "كيف يتسق ماذكره هذا الشخص المجهول مع ما قامت به مصر من مجهود تجاه المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس على أرض مصر وبرعاية وجهد نفس الأجهزة التى يدعى ذلك الشخص انتمائه لها، هل تجد اتساقا فى المواقف؟".
وفيما يخص سيناء، كيف يكون الموقف الرسمى للدولة نقل أهالى بئر العبد، فى حين أن كل قيادات الدولة الشعبية والدينية كانت تصلى الجمعة التى تلت حادث مسجد الروضة بين أهالى بئر العبد فى نفس المسجد الذى شهد الحادث المأساوى؟، ناهيك عن موقف الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى وعد بأن تتحول قرية الروضة إلى قرية نموذجية يشهد لها العالم وتقف فى وجه دعاة الخراب والدم.
لماذا تم نشر تلك التسجيلات الآن بالتحديد رغم مرور شهر على قضية القدس؟
خلال الأيام العشرة الماضية لم يوجع جماعة الإخوان وتنظيمها الدولى والوسائل الإعلامية الموالية لها أكثر من فضيحة تسريبات أيمن نور مالك قناة الشرق وأعضاء مجلس أمناء القناة من قيادات التنظيم الدولى للجماعة.
وتسببت تلك التسريبات، التى فضحت تشوه العلاقة بين أعضاء الجماعة وكشفت مايدور بينهم فى الكواليس من تقسيم للغنائم والموارد المالية فى مقابل "أكل حق" شباب الجماعة والعاملين بالقناة، فى توجيه ضربة قاضية للتنظيم وماتبقى من المخدوعين بشعارات قياداته فى الخارج.
وهذا كان سببا كافيا لأن تبحث الجماعة عن كذبة أو مؤامرة جديدة وجاهزة تلتف حولها وسائلها الإعلامية وتبعد الأنظار عن فضائح التنظيم، وتعيد تلك القنوات إلى المشهد بعد ما تركته تسريبات فضيحة أيمن نور من أثر على متابعى تلك القنوات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة