فى مثل هذه الأيام، كانت العذراء مريم قد تلقت بشارة إلهية، ستلد بلا خطيئة طفلًا من روح الله، وهو الطفل الذى تنبأ بميلاده العرافون وقالوا للملك هيردوس أن ملكًا سيولد ليرث ملكه إلى الأبد، مما دفع الملك لقتل كل أطفال بيت لحم، تمكنت مريم من الهرب مع خطيبها يوسف النجار، واستقرا فى مزود للبقر حين أتتها آلام الولادة، ووضعت طفلها "يسوع المسيح"، حين ولد المسيح نزل إلى الأرض جماعة مِنْ جُندِ السَّماءِ، يُسبِّحونَ اللهَ ويقولونَ: ((المَجدُ للهِ فى العُلى، وفى الأرضِ السَّلامُ لِلحائزينَ رِضاهُ)). ولمَّا اَنصَرَفَ المَلائِكةُ عَنهُم إلى السَّماءِ، جاء جماعة من المجوس يهدون الطفل ثلاثة صناديق من ذهب ومر ولبان، يفسرون حياته القادمة.
ولد الطفل الذى تغير بوجوده وجه الإنسانية كلها، وترك تعاليم تتوارثها الأجيال حتى وإن أغرقتها التفاصيل، ولأن لكل مبعوث من الله رسالة وبرنامج وتعاليم، فإن إعادة القراءة فيما تركه المسيح من برنامج اجتماعى اليوم فى ضوء تعاليم الحياة المعاصرة، سيعيد المجد مرة أخرى لتلك الوصايا الخالدة التى هجرها الناس من بعده.
نصرة المظلوم
ولد المسيح بغير أب، ولأن هذا الميلاد العجيب لم يعهده الناس من قبل، فإن العذراء مريم كانت معرضة لعقوبة الرجم فى مجتمعها، بالإضافة إلى تلك الفضيحة التى ستتطالها، ولكن المسيح يكلم الناس فى المهد ويبرأ أمه من تلك التهم، ويظهر للناس غرابته كطفل.
تحدث الإنجيل فى الكثير من آياته عن عقوبة الظلم، يقول احترسوا مِن كُلِّ ظُلْم (سى 17: 14)، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَك يَكرَهُ كُلَّ مَن يَعمَلُ بِالظّلم (تث 25: 16) والسَّماءُ والأَرضُ شاهِدَتانِ على الظالم (1مك 2: 31).
يشير الإنجيل فى آية آخرى " والرب يسمع صراخ المظلومين(خر3: 9) فلا يَظْلِمْ أَحَدُكم قَريبَه، بلِ آتَّقِ إِلهَكَ(لا 25: 17) فمَن يَظلِمِ الفَقيرَ يُهِنْ خالِقَه (ام 14).
الانحياز للمهمشين
كان المسيح منحازًا للمهمشين والفقراء، حتى أنه أطلق عليهم "الذين ليس لديهم أحد يذكرهم"، وحين ترفع الصلوات فى الكنائس يبرز دعاء شهير يقولوا فيه "ااذكر يارب الذين ليس لهم أحد يذكرهم، أذكر يا رب العاجزين والمنقطعين والمرضى والأيتام والأرامل، هؤلاء الذين أهملهم الكلو ربما قد نسوهم أيضاً".
أطلق المسيح على المهمشين هذا اللقب حين كان يجلس ذات يوم يراقب الهيكل ويشاهد من يضعون عشورهم ونقودهم فيه، رأى عشرات المتبرعين يدسون أموالًا كثيرة فى الهيكل، حتى إذا تقدمت سيدة ووضعت فلسين كانا كل ما تملكه، فقال أن هذا العطاء أكبر من كل العطايا لأنها وضعت أعوازها واحتياجاتها، ليقدم درسًا جديدًا عن الانحياز للمهمشين.
كفالة الفقراء
كان المسيح بارًا بالفقراء، يدعو دائمًا لكفالتهم وحمايتهم، بل أنه كان يشير إليهم دائمًا كلما رآهم ويقول " كل من الغريب واليتيم والفقير هم إخوة الرب يسوع الاصاغر" كما قال عنهم أيضًا "فما نفعله بهم نفعله ليس بهم شخصيا بل به هو شخصيا"، كان المسيح يفسر ذلك دائمًا بقوله أن هؤلاء لم يتخيروا ظروفهم الاجتماعية بل هى إردة الله فى حياتهم، موضحًا أن كل من هو صغير بعين الناس هو عظيم عند الله وإن كل فقير عند الناس هو غنى عند الله".
بر الوالدين
كان المسيح مولودًا من أم دون أب، ولكن يوسف النجار كان يقوم مقام والده، وقد كان طائعًا لكيلهما لا يعصى لهما أمرًا، حتى أن أول معجزة فى حياة المسيح كانت مجرد طاعة للعذراء، فقد كان المسيح يحضر عرسًا فى مدينة قانا مع تلاميذه وكانت الأعراس آنذاك تعقد على مدار أسبوع كامل تقدم فيه المآدب للحاضرين ونَفَدتِ الخَمْر، فقالت العذراء للمسيح "ليس عندهم خمر" وطلبت منه أن يفعل شيئًا فرد المسيح: ما لى وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة؟ لَم تَأتِ ساعتى بَعْد"، لكنه سرعان ما استجاب لأمه وتحول على يديه الماء إلى خمر ليضرب مثلًا فى الطاعة حتى لو كانت على حساب برنامجه ومواعيده.
إعلاء قيمة الإنسان
كان المسيح يعلى من قيمة الإنسان حتى أنه كان يرفع درجات الرحماء ليصيروا وكأنهم أقربائه بالدم، ويروى الإنجيل قصة السامرى الصالح والرجل اليهودى الذى كان مسافرًا فرآه السامرى مثخنًا بالجراح فطببه وأوصله إلى الطبيب دون النظر لدينه أو جنسه ولونه رغم العداوة بين اليهود والسامريين آنذاك، واعتبره المسيح من أقربائه.
كان المسيح يرى أن العداوة لا بد وأن تكون بين الإنسان والشيطان وليس الإنسان وأخيه الإنسان فمن يجد فى قلبه كراهية أو غضب من أحد البشر، فليس مسيحيا ولا من تلاميذه.
الاهتمام بالأطفال
كان السيد المسيح يحب الأطفال، وكان يحتضنهم ويباركهم، وكان يحذر الناس من أن يسببوا لهم عثرة، وهكذا قال "من اعثر أحد هؤلاء الصغار فخير له أن يعلق فى عنقه حجر الرحى ويغرق فى لجة البحر" (مت6:18).
وقال فى محبته للأطفال "أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار"، بل أن الانجيل يرى أن تحلى الإنسان بروح الطفولة من ضمن شروط دخوله الملكوت السماوى، فالأطفال لا يكرهون ويتمتعون بروح المحبة الدائمة والرغبة فى المعرفة والتعلم.
تجنب الحكم على الآخرين
حرص المسيح طوال حياته على تجنب خطيئة الحكم على الآخرين، ومن ذلك ما فعله مع المرأة الزانية، إذ يروى الإنجيل أن بعض الكتبة والفريسيين، وهما طائفتان من اليهود آنذاك، قد أمسكوا امرأة تزنى، واقتادوها إليه وقالوا أن النبى موسى قد أوصاهم برجمها، ليسألوه عن رأيه فى ذلك ويختبروا تعاليمه، فما كان من المسيح إلا أن انحنى إلى أسفل ليكتب ذنوبهم أمامهم على الأرض، وحين سألوه مرة أخرى: ماذا ستفعل معها؟ وقف وقال: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، فأحرج اليهود من خطاياهم المكتوبة أسفلهم وذهبوا، حينها سأل المسيح الزانية: أين المدعون عليك؟ فقالت: لا أحد. فرد: «اذهبى ولا تخطئى أيضا».
فى هذه القصة الشهيرة، أراد المسيح أن يؤسس لمبدأ عدم الحكم على الآخرين، هو لا يحب الخطيئة ولكنه يحب المخطئ ويدفعه للعودة إليه، وهو أيضًا إذ عرى اليهود أمام خطاياهم وواجههم بقبح أفعالهم، لم يشأ أن يخالف القانون السائد فى مجتمعه ويخرج عليه، حيث كانت الزانية تعاقب بالرجم، بل أراد أن يضرب عصفورين بحجر يؤسس للرحمة والعدل من ناحية، ويؤكد ضرورة اتباع السائد والبناء عليه دون كسره أو مخالفته حتى لا تحدث فتنة فى المجتمع، وقياسًا على نفس المبدأ قال المسيح أيضًا: «لا تدينوا لئلا تدانوا، فبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم»، وكذلك عبارته الشهيرة "من أقامنى قاضيًا عليكم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة