كان الوقت بعد الظهر، حين خرجت العروس، الأميرة أمينة هانم بنت إلهامى باشا بن عباس الأول، حفيد محمد على، إلى قصر الأمير توفيق بالقبة، وخرجت العروس، الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد باشا بن إبراهيم بن محمد على، إلى قصر الأمير حسين، وخرجت الأميرة فاطمة بنت إسماعيل باشا إلى قصر عريسها طوسون بن محمد سعيد بن محمد على باشا، وخرجت الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا إلى قصر عريسها الأمير حسن، وحسب إلياس الأيوبى فى مجلده «تاريخ مصر فى عهد إسماعيل باشا» عن «مكتبة مدبولى - القاهرة»، فإن حفلات الزفاف تلك، كانت لأبناء الخديو إسماعيل، توفيق وحسن وحسين وفاطمة «يوم 23 يناير» مثل هذا اليوم عام 1873، ويذكر أن زواج خديجة والأمير حسن جاء بعد أن أعجب إسماعيل بملامح ذكاء خديجة، لما أدخلها المدرسة التى أنشئت لأميرات البيت العلوى خصيصًا، ووعدها بتزويجها من أحد أولاده إن هى أظهرت اجتهادًا فى تعلمها، ولما زار هذه المدرسة لتفقد حال الطالبات «الأميرات» وصل إليها وسألها: إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا بنيتى؟، فأجابت من فورها: إلى «واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد»، فسرّ الخديو بجوابها جدًا، وقال: أجل..أجل، ثم بر لها وعده.
لم تقتصر الأفراح الخاصة بهذه المناسبة على اليوم الذى تم فيه الزفاف، فحسب تأكيد«الأيوبى»: «أقيمت ابتداء من 15 يناير سنة 1873، ودامت أربعين يومًا كاملة باعتبار عشرة أيام لكل فرح منها»، ويضيف: «شوارع العاصمة المهمة، وعلى الأخص ما كان منها مؤديًا إلى القصر العالى، مقر والدة إسماعيل، وإلى سراى الجزيرة، مقر حفلات إسماعيل المفضل، وسراى القبة مقر ولى العهد، زينت بالتحف والفوانيس المختلفة الألوان على مسافات بضعة آلاف من الكيلومترات، ووضع فى نهايتها أقواس نصر مختلفة الأنوار، جعلوا فى أعاليها طرقات رصعت بالشموع، وسطعت ملايين الأضواء تتلألأ فى الليل وكأنها نجوم سطعت فجأة، فقلبت الظلام نهارًا»
يواصل «الأيوبى» وصفه لحال القاهرة المبهر أيام أفراح الأنجال قائلا: «أقيمت فى أهم الميادين جوقات موسيقية وتخوت آلاتية، وأهمها تخت عبده الحمولى، بلبل الأفراح، ورب الطرب الشرقى على العموم، ونصبت فى كل جانب المسارح المرتجلة ليمثل عليها غواة الفن، وجوقات كراكوز فيحضر من شاء تمثيلها مجانًا، ومدت الحبال فى الساحات العمومية، لاسيما جهة القصر العالى ليلعب عليها البهلوانيون ألعابهم المدهشة المحيرة للألباب، فشبكت بصوار عالية جدًا، ملفوفة عليها أقمشة ملونة، تعلوها مراء فاخرة، وتتخللها مناور ساطعة، ورتبت الصواريخ بتفنن غريب فى تلك الجهة عينها، وأخذوا يشعلون كل ليلة جانبًا منها، فتدوى طلقاتها فى آفاق العاصمة كلها، وتتناثر نجومها وأهلتها فى جميع الأحياء ست ساعات متوالية»
كان لكل يوم من الأربعين لون احتفالى معين يذكره «الأيوبى»: «ففى السادس عشر من يناير أقيم فى العباسية سباق، كان معظم جواكيه من السود اللابسين لباسًا من الحرير الأحمر، ومد فيه على نفقة الخديو الخاصة مقصف للمدعوين، فاقت أصناف مأكولاته ومشروباته فى التنوع واللذة كل ما ظهر من نوعها على المقاصف الخديوية، وفى السابع عشر أقيم مرقص فخم فى سراى الجزيرة، دعى إليه ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف من الأجانب وأعيان البلاد، فنورت الطريق كلها من عابدين إلى منفذ كوبرى قصر النيل فى الجزيرة بفوانيس من الورق الزاهر الألوان، وفى اليوم التاسع عشر بدأت أعياد القصر العالى، فنصبت حول الساحة الممتدة أمامه الصواوين والسرادقات، وعليها أسماء أصحابها، وبيان الغرض المعد كل منها لأجله، وأقيمت صواوين خاصة للقناصل، وغيرها للتجار، وأخرى للعلماء، وسرادق لمحافظ العاصمة، علاوة على الصواوين التى أقامها الأعيان على نفقتهم لأنفسهم ليتمتعوا بمشاهدة الأعياد، وكنت تراهم جالسين فيها يدخنون شبكاتهم، والصواوين العمومية المتخذة قهوات للرقص والغناء».
يؤكد «الأيوبى» أن الرقص والغناء امتدا داخل القصر الخديوى، قائلًا: «فى سر دور الحريم كنت ترى أشهر الراقصات مزاحمات صفية وعائشة الطويلة، وغيرهما من ربات الفن السابقات على الإبداع فيه، هناك كنت تسمع ألمظ التى كانت إذا غنت أخذت بمجامع القلوب، واستولت على الأسماع برنين صوتها الرخيم، هناك كنت تنظر مشاهير البهلوانية من الإنجليز يأتون من صنوف الألعاب، ما يخلب العقول ويدهش الألباب، وأساتذة الكار من أهل اليازرجة يأتون من الملاعيب ما يحير الأبالسة أنفسهم».
فى هذه الأجواء الساحرة تم زفاف الأمراء والأميرات يوم 23 يناير، وامتد حتى اليوم التالى 24 يناير.. فماذا حدث؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة