كان خريف عام 1952عندما بدأ تشرشل رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ووزير خارجيته أنتونى أيدن، يخططان لقلب نظام الحكم فى إيران واستبدال رئيس الوزارء المنتخب من الشعب "محمد مصدق" وإعادة شاه إيران محمد رضا بهلوى الهارب إلى روما من جديد على عرش الطاووس.. وتصل المعلومات للأمريكيين خلال لقاء فى لندن وحديث دار بين جون كرافران ممثل المخابرات البريطانية، وكرميت روزفلت ممثل المخابرات الأمريكية، كشف فيه الأول بوجود اتصال وتخطيط مشترك مع القصر الإمبراطورى.
تحل اليوم السبت الذكرى الـ64 للانقلاب ضد مصدق الذى قادته وكالات الاستخبارات العالمية، بعد أن هدد المصالح البريطانية بتأميم النفط واحتدم الصراع بينه والشاه محمد رضا بهلوى، وتزامنت مع نشر الخارجية الأمريكية قبل شهر وثائق جديدة تكشف حقائق أكبر عن عملية الانقلاب المشتركة والتى سميت بـ"اجاكس".
مصدق حوله الجماهير
كان محمد مصدق أحد القادة السياسيين الوطنيين في إيران، يترأس الجبهة الوطنية، وقد نشأ كأحد أفراد الصفوة الإيرانية الحاكمة وحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة لوزان في سويسرا وعاد إلى إيران في 1914 وعين رئيسا لحكومة مقاطعة فارس وفى 1921عين وزيرا للاقتصاد ثم وزيرا للشئون الخارجية لفترة قصيرة، كما انتخب عضوا في البرلمان، وقد شغل منصب رئيس وزراء إيران المنتخب بين عامى 1951 و1953.
الجماهير الغاصبة المطالبة بإعادة مصدق بعد أن عزله الشاه
وذات يوم فى عام 1951 أجاز البرلمان الإيرانى تأميم النفط، فزادت قوة مصدق في الشارع الإيرانى، الأمر الذي أجبر الشاه على تعيينه رئيسا للوزراء، وألغى الامتياز الممنوح لشركة النفط الأنجلو- إيرانية، لاحتكار النفط، وبدأت تقوى شوكته حتى أن الشاه نفسه خشى على شعبيته التى انخفضت أمام زعيم وطنى مثل مصدق، ثم حاول الشاه صرف مصدق من منصبه رئيس للوزراء في 1953 فخرجت الجماهير المؤيدة لمصدق إلى الشوارع مدافعة عنه وأجبر الشاه على مغادرة البلاد، وبالفعل هرب إلى روما ليلحق بزوجته الثانية "ثريا اسفنديارى" التى سافرت إلى أوروبا لتنعم بصيف هادئ بعيدا عن ضوضاء السياسة والتظاهرات التى جابت إيران طولها وعرضها.
كما يهدف مصدق من التأميم أن يستفيد الإيرانيون من عوائد نفطهم، سانده التيار الدينى وكان أحد أبرز رموز المؤسسة الدينية الإيرانية فى تاريخ إيران المعاصر وهو آية الله أبو القاسم كاشانى انضم إلى حركة مصدق الوطنية، فأفتى بأن "كل من يعارض تأميم النفط الإيراني هو عدو للإسلام".
إلى هنا كان كل شىء يسير وفق خطة زعيم الجبهة الوطنية، إلا أن تحالفه مع "حزب توده" الشيوعى المدعوم من السوفييت التى كانت يهدد المصالح الأمريكية فى العالم، أثار قلق الرئيس الأمريكى آنذاك "أيزنهاور"، كما أن هدف مصدق لإنهاء سلطة الشاه زاد من حساسية الأمريكيين وبخطورة شخصيته التى كانت تزداد نفوذا يوما بعد يوم، فعقدت بريطانيا وأمريكا العزم على التخلص من مصدق الذى بات مصدر إزعاج لهم، وبعد نجاح الانقلاب أعيد الشاه إلى عرشه بعد ثلاثة أيام، وتمت محاكمة مصدق وحكم عليه بالإعدام، خففه الشاه إلى السجن 3 سنوات بتهمة الخيانة، وبعد انتهاء المدة فرضت الإقامة الجبرية عليه في منزله بقية حياته إلى أن توفي عام 1967.
انتهى الانقلاب تاركا وراءه مئات من الوثائق حبيسة خزائن وكالات الاستخبارات العالمية، سجلت تفاصيل العملية، وكشفت حقائق مريبة ما كان للتاريخ أن يعرفها لولا أن الوثائق احتفظت بها، وكانت إحدى الحقائق الصادمة، تعاون آيات الله مع المخابرات الأمريكية والشاه فى عملية الانقلاب.
شاه إيران يقبل كاشانى
تحالف التاج والعمامة
وتكشف وثائق أمريكية، أنهم وقع اختيارهم على رجل الدين النافذ فى ذلك الوقت آية الله كاشانى، وفى مارس 1951 استغلوا تحالف مصدق مع كتل اليسار والليبراليين وعملوا على الوقيعة بينه وبين كاشانى، لضمان تحريك الشارع الإيرانى عن طريق التلاعب بالعواطف الدينية للجماهير عند مصدق، وتحول من النقيض إلى النقيض، فبعد أن كان ظهيرا لمصدق، انقلب بين عشية وضحاها وانسحب من التحالف معه فاتحا الطريق أمام خصومه في الداخل والخارج للنيل منه، وتعاون مع روزفلت مندوب المخابرات الأمريكية، وتحول إلى حليف للشاه، يدعوه للبقاء فى بلاده حتى لا يمنح مصدق الفرصة للانفراد بالحكم.
الكاشانى ورجال الدين
من كاشانى إلى بهبهانى خيانات تحت عباءة الدين
وكشفت الدفعة الجديدة من الوثائق الأمريكية التى أفرجت عنها الخارجية الأمريكية مؤخرا فى يونيو 2017، عن جذب وكالة المخابرات المركزية لكاشانى الذى كان مصدر إلهام لمؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخمينى، وعقدت لقاءات مختلفة معه قبل الانقلاب وهو ما كشف عنه وثيقة تتعلق بالمراسلات الأمريكية الرسمية من إدارتي الرئيسين الأمريكيين هاري ترومان ودوايت أيزنهاور.
وبحسب بى بى سى البريطانية على نسختها الفارسية، لم تثبت الوثائق تدخل كاشانى بشكل مباشر فى الانقلاب أو تلقيه تمويلا ماليا من وكالة الاستخبارات الامريكية، لكنها تكشف النقاب عن لقاءات ومناقشات عديدة دارت بين كاشانى وسفير الولايات المتحدة فى طهران لوى هندرسون، ومندوبو المخابرات الأمريكية قبيل الانقلاب بأشهر.
جانب من لقاء كاشانى مع السفير الأمريكى فى إيران آنذاك
وفى إحدى الوثائق المؤرخة بتاريخ 20 أغسطس 1951، وهى عبارة عن تقرير من السفارة الأمريكية بطهران، وصف فيه مسئول المخابرات كاشانى بالشخصية الانتهازية، المعادى لبريطانيا، وفى 5 يناير 1952 التقى كاشانى بعناصر الـ CIA فى طهران، وبعد اللقاء كتب موظفو المخابرات الأمريكية تقريرا حول شخصية كاشانى قالوا فيه إنه يهاجم أمريكا بشدة، ويفكر فى موقعه فى الداخل ولديه طموحات إقليمية.
وبعد تولى كاشانى رئاسة البرلمان، هنأه وليام وران رئيس برنامج المساعدات الأمريكية لإيران فى إحدى لقاءاته، وحاولت واشنطن مغازلته، وكانت إحدى طموحات كاشانى أيضا التى كشفت عنها الوثائق هى حلمه بتشكيل جيش موازى من ملايين المسلمين المستعدين لفداء الإسلام بأرواحهم، وطالب السفير الأمريكى بإبلاغ الإدارة الأمريكية بهدفه وأن يأخذ أفكاره على محمل الجد، ونقلت إحدى الوثائق عن كاشانى قوله "أنا لست شخصا عاديا، أنا زعيم العالم الإسلامى".
وثيقة الخارجية الأمريكية
دولارات بهبهانى
وقع مصدق فريسة لرجال الدين الذين باعوا أنفسهم للشيطان الأكبر والقوى الكبرى إنجلترا وأمريكا، فلم يكن كاشانى وحده الذى تعاون مع وكالات الاستخبارات بل هناك رجل الدين المعارض العنيد لمصدق "محمد بهبهانى"، وأكدت BBC فى تقريرها تلقى رجل الدين مبالغ مالية ضخمة من السفارة الأمريكية قبل أيام من تنفيذ مخطط الانقلاب، حتى أن موظف المخابرات الأمريكية السابق ريتشارد كاتم سجل ذلك فى كتابه تحت اسم "دولارات بهبهانى"، وهوما يتفق مع المصادر التاريخية التى قالت إن الولايات المتحدة رصدت مبالغ ضخمة لتنفيذ الانقلاب، وكتبت شقيقة الشاه أشرف بهلوى فى مذكراتها أن حملة الدعاية ضد مصدق فى الإعلام لإسقاطه لم تحتاج إلى المبلغ كله.
مصدق وكاشانى
صدمة الإيرانيين فى "كاشانى" بعد نشر الوثائق
الوثائق صدمت الإيرانيين الذين أطلقوا حملة لإزالة اسم كاشانى من الشوارع وإطلاق اسم مصدق، الذى كان يطلق فى بدايات الثورة على أكبر شوارع طهران، وتمت إزالته ليصبح اسمه ولى عصر ويتوارى اسم مصدق، بعد نجاح رجال الدين فى الانقضاض على ثورة 79، وتم محو تاريخ الزعماء الوطنيين ليتصدر تاريخهم المشهد فى إيران، وعاداه رجال الدين بسبب قربه من اليساريين والليبراليين ولم يذكره التاريخ سوى أنه أمم النفط، لكن فى أعقاب تولى الزعيم الإصلاحى خاتمى رئاسة إيران تغيرت هذه النظرة بشكل محدود.
الزعيم والإرهابى مفارقات فى إيران
وهنا تأتى المفارقة، فعندما تناسته طهران تذكرته القاهرة، وأزالت إيران اسمه حين خلدته مصر على أحد أبرز شوارعها بحى الدقى فى محافظة الجيزة، الذى يحمل اسم "محمد مصدق"، لكن سخرية القدر جعلت إيران الثورة تنسى تخليد ذكرى زعيمها الوطنى، فى وقت تمسك فيه القيادة الإيرانية بإطلاق اسم "خالد الاسلامبولى" الإرهابى قاتل الرئيس الراحل أنور السادات على أحد شوارعها، وتعليق صورته على أكبر جدارية فى الشارع نفسه.
هيكل يحاور الكاشانى فى كتابة إيران فوق بركان
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة