تساؤل جاب وطاف فى أذهان آلاف الساسة والإعلاميين والمفكرين دون التوصل لإجابة، وقبل التطرق لإجابة السؤال، لابد من الغوص فى جذور الفكر المتطرف الذى يكمن خلف شجرة الارهاب الخبيثة، فما نراه اليوم من صور لرجال ملتحين حاملين رايات سوداء وسيوف تقطع الرقاب ما هى إلا قشرة رقيقة لتراكم فكرى عميق منذ قرون طويلة.
والجدير بالذكر، أن دعم واشنطن للجماعات الجهادية بالسلاح والاستخبارات لوقف الزحف السوفيتى فى أفغانستان عام 1979 عشية سقوط حليفهم الزعيم الشيوعى نور محمد تراقى قد مثل دفعة بالغة القوة للجهادية الاسلامية كانت بالفعل فى انتظارها منذ سقوط الخلافة العثمانية على أيدى أتاتورك، وتأسيس حسن البنا لجماعة الإخوان المسلمين.
ورغم مرور نحو تسع قرون منذ الحروب الصليبية التى مثلت أول مواجهة لصالح الغرب.. لم ينسى الشرق عدوه القابع فى الغرب، ليجد نفسه أمام جولة جديدة من المواجهة المختلة مع وضع أول جندى فرنسى قدمه على تراب مصر عام 1798 خلال حروب نابليون الكبرى ثم تلاه مد استعمارى أوروبى جارف بدأ باجتياح فرنسا للجزائر عام ،1830 ولم يهدأ حتى اشتداد الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكيين باستقلالها بالستينات ثم ارتفاع صوت المطالبين بحوار الحضارات والأديان .. لكن دون جدوى لأنها تتبدد دائماً مع أول صدام بينهما كما حدث عقب غزو العراق عام 2003.
هى رحلة طويلة جداً فى المواجهة.. فبعيداً عن التحليلات التقليدية للجماعات الارهابية، أطرح تحليلاً مختلفاً ينطلق من نظرتهم للنظام الدولى تغذيها أوضاع اقتصادية وسياسية مثالية داخل الدول العربية والاسلامية نفسها، فهى جماعات تطمح – حسب زعمها - لـ (نصرة الاسلام) ببناء دولة إسلامية تشمل كل المسلمين وتجريف كافة الحدود السياسية بينهم التى رسمها الغرب باتفاقيات تم حياكتها بغرف مغلقة بباريس ولندن مثل سايكس بيكو وقد شاهدنا بالفعل مقاتلى داعش عام 2014 يجرفون سياج الحدود بين العراق وسوريا ويحرقون جوازات سفر بلدانهم التى أسقطوا انتماءاتهم لها فور وقوفهم على تراب الدولة الاسلامية بالعراق والشام المزعومة.
ترى هذه الجماعات الارهابية النظام الدولى ظالماً للمسلمين بدعم أسياده لإسرائيل التى تحتل الأقصى، هم أسياد غير مسلمين وثنيون أحياناً مثل الهند الهندوسية والصين البوذية وصليبيون أحياناً كالدول الأوروبية والولايات المتحدة التى شيدت منظمات دولية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى والأمم المتحدة لاستدامة هيمنتها على العالم النامى أو بالأحرى "الاسلامي" .
وفى مفترق الطرق، ولدت القومية العربية بنهاية القرن التاسع عشر أملاً بالنهوض بالعرب وتحريرهم من قهر العثمانيين لكنها أبعدتهم عن عمقهم الاسلامى وعقبها مباشرة رد فعل اسلامى من حسن البنا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، للرد على القوميين بمشروع اسلامى موزاى له.
وكلا المشروعان (الاسلامى والقومي) لم يتوجا بالنجاح، فلم يحقق العرب نهضتهم ووحدتهم القومية ولم يحيى المسلمون خلافتهم الاسلامية بل باتا متحاربان، ثم تأتى حرب أفغانستان لتضع النقط على الحروف بتدشين مواجهة مختلفة تماما بين جماعات مسلحة ضد دول، فالجماعات تطمح لتحقيق ما لم يحققه الحكام العرب والمسلمين .
هى خيوط متشابكة تنسج خريطة معقدة خلال قرنين من المواجهة بين الغرب المسيحى المتفوق والشرق المسلم المتخلف علاوة على تطور نظام عالمى هَمَش المسلمين لقرون، وبعيداً عن لعبة اللوم بين الحكام وشعوبهم عن مسئولية مَن هذا التخلف والضعف، فإن الجماعات الارهابية رغم اختلاف مسمياتها تمثل رد فعل منطقى فى معادلة المواجهة بين الجبهتين وتجتمع بلا استثناء على أرضية واحدة وهى "بناء دولة الإسلام عشية دحر أعدائه".. لكن مَن هم هؤلاء الأعداء؟
ولا أرغب أن ينجرف قلمى هنا لأبعد من ذلك، لكن الجدير بالذكر أن العالم لم يجتمع على تعريف واحد للإرهاب .. وأراه إحدى صور الاحتجاج على وضع ما ضد مصلحة المحتَج أو مَن يسمى بـ "الإرهابي".
ومن زاوية أخرى، عند رصد الجنسيات التى تغذى شرايين الجماعات الإرهابية كداعش سنجد أن أغلبها جنسيات فقيرة اقتصادياً وذات تجارب سياسية قاسية حيث قمع الحريات المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل اليمن وأفغانستان .
هذا هو الركن الناقص فى معادلة فشل الفكر المعتدل فى مواجهة نظيرة المتطرف، ففى الوقت الذى تدخر حكومة اليمن وقتها وأموالها لتمويل برامج توعية دينية فقيرة الأداء والمحتوى بالإسلام المعتدل، يرزح ملايين اليمنيين تحت خط الفقر والقمع السياسى مما يجعل هذا البلد وأغلب البلاد العربية المشابهة عديمة المناعة أمام فيروس الفكر المتطرف الذى طالما حاك خيوطة حول الفقراء والمعدمين والمحرومين ليتغذى على فقرهم واستبعادهم من ثروات الأمة.
مليارات أنفقت على حروب شُنَت فى اليمن وأفغانستان وليبيا وسوريا واعتقالات واسعة فى روسيا وبريطانيا وفرنسا وخطب رنانة يوم الجمعة ومؤتمرات للتوعية بالفكر المعتدل تطوف العالم من أقصى غربه لأقصى شرقه.. هذا هو كل ما يملكه العالم لدحر الارهاب ولن يجدى نفعاً!
بل لابد من تغيير النظام الدولى نحو معادلة أكثر اتزاناً بين أسياده وهوامشه، وهو أمراً شبه مستحيلاً لأن ذلك التغير سيستهلك قرناً فأكثر، علاوة على عدم ظهور فى الأفق أى قوة اسلامية أو عربية مرشحة لتصبح قطب أو قوة عظمى مشابهة للصين أو الولايات المتحدة لتقود النظام الدولى خلال القرن الحالى مما يؤكد تقاطع الداخل مع الخارج، فالوضع السياسى والاقتصادى داخل الدول المصدرة للإرهاب لا يؤهلها لقيادة النظام الدولى ويحتاج بجدية للترميم .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة