فى واحدة من أقواله الخالدة، قال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر: «إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وقد ينطبق ذلك على الحروب الميدانية أو احتلال الأرض، أما فيما يتعلق بـ«احتلال العقل» إن جاز التعبير، وحروب الجيل الرابع، فالأمر مختلف تمامًا، فما أخذ بالفكر لا يسترد إلا الفكر، وهو ما ينطبق على المعركة التى تعرضت لها مصر منذ سنوات فى ملف «القوة الناعمة» الذى منح مصر مكانتها فى محيطها الأفريقى والعربى، وخير دليل على ذلك أن اللهجة المصرية بفضل السينما والدراما كانت فى فترة من الفترات هى اللهجة الأكثر فهمًا وتداولًا من الخليج إلى المحيط.
و«القوة الناعمة» ملف شامل يحتوى على العديد من الأدوات فى العديد من المجالات، منها الفن، الأدب، الثقافة، الفكر، الموسيقى، وينضم إلى ذلك مؤسسات الأزهر والكنيسة، أو أى مؤسسة لها علاقة بالقوة الروحية والمعنوية، ووفقًا لأحد تعريفات القوة الناعمة، فإنها تقول أن تكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال أسلوب تنتهجه الدولة لتعميم المبادئ والأفكار والأخلاق، ولا يتم ذلك إلا بالتوازى مع إطلاق مشروعات البناء والتعمير والتعليم، بهدف نشر هذه العناصر لاكتساب صفة الاحترام، وبالتالى تشجيع الآخرين على تبنى هذا الأسلوب.
ومؤخرًا أفردت إحدى المجلات الأمريكية تقريرًا مطولًا عن القوة الناعمة لمصر، وصفت فيه «واشنطن إكسامير» مصر بأنها الدولة الأشهر فى الشرق الأوسط، ومن أكثر الدول التى استفادت من القوة الناعمة، فهى مركز مهم للكتّاب والفنانين والمثقفين، الذين لعبوا دورًا أساسيًا فى تشكيل المجتمع المصرى، والتأثير على السكان العرب فى جميع أنحاء العالم.
وذكرت المجلة أن الروائى المصرى نجيب محفوظ، هو الكاتب العربى الوحيد الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب، مشيرة إلى أن صناعة السينما بدأت فى مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضى، حيث أنتجت القاهرة وحدها ثلاثة أرباع الأفلام العربية الطويلة والقصيرة، والإذاعة المصرية تبث جميع برامجها بالعديد من اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية، إلى جانب أن مصر تمتلك العديد من المنشآت الثقافية، منها دار الأوبرا المصرية، ومكتبة الإسكندرية التى تم إعادة افتتاحها عام 2002.
وفى إشارة لا تخلو من إسقاط، على من يحاولون سحب سلطة القوة الناعمة من مصر، قالت المجلة الأمريكية إنه على الرغم من محاولات بعض المراكز الإعلامية الناشئة فى الشرق الأوسط، فرض هيمنتها على المشهد، فإن الفنانين المصريين فى كل المجالات يحظون بشهرة كبيرة داخل المجتمع العربى، واختتمت المجلة تقريرها بالقول إن القوة الناعمة لمصر ليست مفيدة فى دعم الصورة الذهنية عن مصر، وإنما أيضًا هى إحدى الأدوات فى القضاء على الفكر المتطرف والإرهاب فى المنطقة.
وعلى الرغم من محاولات الهدم والتجريف المتعمدة، التى تعرضت لها أدوات القوة الناعمة فى مصر، على مدى السنوات الماضية على المستوى الداخلى، حتى وصلنا إلى أغانى المهرجانات، أو على المستوى الخارجى فى صورة استيراد الدراما التركية وغيرها من البرامج المعلبة، فإنه فى شهر فبراير 2015 بعد تثبيت أركان الدولة عقب ثورة 30 يونيو، عقدت فايزة أبوالنجا، مستشار الرئيس للأمن القومى، اجتماعًا مع عدد من السينمائيين والفنانين، لمناقشة ملف السينما والدراما، وكان من بين الحضور الكاتب الكبير وحيد حامد، وغيره من المثقفين.
وفى هذا الاجتماع، قالت «أبوالنجا» للحضور إن هناك إرادة سياسية لتخفيف تناول بعض الموضوعات فى الأعمال الفنية، مثل «الدعارة والمخدرات والألفاظ الخادشة للحياء»، وإن هناك توجهًا ورغبة من الدولة فى النهوض بصناعة الدراما والسينما، وعودة الأفلام والأعمال الدرامية الهادفة.
و الملاحظ هنا أن هذا الاجتماع لم يكن اجتماعًا تقليديًا، وإلا لتم الاكتفاء بأن يترأس الاجتماع وزير الثقافة، أو رئيس غرفة صناعة السينما مع أصحاب الشأن وكبار المنتجين، وإنما كان الهدف أكبر من ذلك، فالمسافة ليست بعيدة بين ملف القوة الناعمة وأدواته بحروب الجيل الرابع، التى تجاوزت المفهوم العسكرى للحروب الميدانية إلى المفهوم الأكبر، بحيث يتم توظيف القوى الناعمة فى تلك الحروب إلى جانب الأدوات العسكرية، والدليل على ذلك أن هناك العديد من الدول تعتمد على وسائل الإعلام والقنوات التليفزيونية جنبًا إلى جنب مع التنظيمات والميليشيات، من خلال العمل على إنهاك الخصم وتدميره بشكل منهجى، وتشتيت الرأى العام، حتى يتمكن الطرف المسيطر على الوسيلة الإعلامية من تحقيق أهدافه، وهو ما ظهر مؤخرًا فى القائمة الجديدة من التنظيمات والكيانات الإرهابية، التى اعتمدتها الدول الأربع «مصر والسعودية والبحرين والإمارات»، حيث ظهرت فى هذه القائمة العديد من المنصات الإعلامية التى تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية الموجودة فى ليبيا فى بث رسائلها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مركز السرايا للإعلام، الجناح الإعلامى لمجلس شورى ثوار بنغازى، وكذلك وكالة بشرى الإخبارية، التى تعتبر الجهة الإعلامية الرسمية لسرايا الدفاع عن بنغازى فى ليبيا، وهى ميليشيا إرهابية مدرجة من قبل الدول الداعية لمكافحة الإرهاب فى يونيو2017، واللافت أن هذه الأذرع الإعلامية لها علاقة مباشرة بقناة الجزيرة القطرية، ومنها بالطبع قناة نبأ، التى يسيطر عليها عبدالحكيم بلحاج، القائد السابق للمجموعة الإسلامية لمقاتلى ليبيا، التابعة للقاعدة، إذ كشفت وثائق تمويل الإرهاب أن مراسلى قناة نبأ تلقوا تدريبهم فى مركز قناة الجزيرة للتدريب والتطوير الإعلامى بالدوحة.
وفى الدراسة المهمة التى قدمها الباحث بجامعة الدفاع الوطنى الأمريكية، توماس هامز، فى مؤتمر الجيل الرابع من الحروب، الذى عقد فى إمارة أبوظبى، مايو الماضى، قال إن الإرهاب تحركه فكرة، والتكنولوجيا وحدها لا يمكنها الانتصار فى الحروب، وكذلك القوات والأسلحة، وإنما هناك وسائل أخرى يتم الاعتماد عليها، منها الإنهاك السياسى لمتخذ القرار فى الدول المستهدفة، والدمج بين هذه العناصر لتحقيق الهدف المنشود ألا وهو إسقاط الدولة.
وفى ذات الجلسة، كشف حامد بن زايد آل نهيان، رئيس ديوان ولى عهد أبوظبى، فى كلمته أن جماعة «الإخوان»، و«حزب الله» اللبنانى، هما أكثر الجهات التى استعانت بأدوات وتقنيات حروب الجيل الرابع، لاستغلال ما يسمى الربيع العربى لتحقيق واقع سياسى جديد، ومكاسب ملموسة على الأرض، وهذا بالطبع كان من خلال المنصات الإعلامية وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعى المعتمدة على التقنيات الحديثة فى وسائل الاتصال.
وللأمانة يجب الإشارة إلى أن استخدام حروب الجيل الرابع أو التخطيط لاستخدامها ضد أى دولة لا يتم بشكل عشوائى، وإنما هناك مجموعة من العوامل تتحكم فى هذه الاستراتجية، منها وجود الفساد، والركود الاقتصادى، وسوء الأحوال المعيشية، وتراجع مستوى التعليم، بمعنى أن تكون هناك حالة احتقان فى المجتمع، أو أن يكون المجتمع مهيأ لذلك بشكل أو بآخر، من خلال إثارة الفتنة الطائفية إذا كانت الدولة متعددة القوميات والأعراق، حتى تنجح استراتيجية الحرب عن بُعد لبث الفرقة وإضعاف مؤسسات الدولة وإنهاك جيشها، لتسهل بعد ذلك السيطرة عليها بشكل غير مباشر.
وربما يفسر ذلك الأمر اللعب على ورقة الفتنة الطائفية فى مصر، واستهداف الكنائس فى بعض العمليات، وهو ما انتبهت إليه الدولة فى أكثر من مناسبة، لاسيما حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى على الذهاب إلى الكاتدرائية للتهنئة بالأعياد، وكذلك توجيه الدعوة إلى بابا الفاتيكان لزيارة مصر، وهو ما استجاب له البابا فرنسيس فى شهر إبريل الماضى، حيث قال بابا الفاتيكان فى الكلمة التى ألقاها إن مصر هى «أم الدنيا»، وتثبت أن الدين لله والوطن للجميع، مشيرًا إلى أنها مدعوة لإنقاذ المنطقة من مجاعة المحبة، وأنها تبنى السلام بيد، وتحارب الإرهاب بيد أخرى.
وأضاف البابا: «سعيد أن أكون فى مصر، أرض الحضارة النبيلة والعريقة، والتى حتى اليوم يمكن الانبهار أمام آثارها التى تصمد فى هيبة وجلال، وكأنها تتحدى العصور، إن هذه الأرض تعنى الكثير لتاريخ البشرية بماضيها التاريخى العريق الفرعونى والقبطى والإسلامى، والعديد من الآباء البطاركة عاشوا فى مصر».
وأكد بابا الفاتيكان أن مصر تثبت أن الدين لله والوطن للجميع، وهذا كان شعار ثورة 23 يوليو، ومصر لها دور فريد، ومهد الأديان الثلاثة، وعلى المنطقة أن تنهض من محنتها لكى تشع قيم الأخوة والعدالة التى تمثل أسس السلام.
وعلى الرغم من أن زيارة بابا الفاتيكان كانت قصيرة إلى مصر، فإن كلماته كانت معبرة تمامًا عن قدر مصر فى الحاضر والمستقبل، فلا سلام ولا استقرار فى منطقة الشرق الأوسط دون أن تكون مصر آمنة ومستقرة.
وبالعودة إلى إحدى استراتيجيات الجيل الرابع من الحروب، فإنها تعتمد على دفع الإنسان إلى هدم مجتمعه الذى يعيش فيه بنفسه، دون تدخل خارجى، أى تحويل المواطن إلى أن يكون أحد أفراد جيش العدو، على أن يسبق ذلك هدم أركان الدولة الأساسية ورموزها ومؤسساتها، من جيش وشرطة وأجهزة معلومات، حتى لا تكون هناك دولة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة