دخل شابان إلى غرفة الاستقبال فى منزل اللواء محمد نجيب كلاهما يرتدى بنطلونا رماديا وفوقه قميصا أبيض، يوم الجمعة 18 يوليو «مثل هذا اليوم» عام 1952، كان الأول هو «البكباشى» جمال عبد الناصر، والثانى هو «الصاغ» عبدالحكيم عامر، حسبما يؤكد محمد حسنين هيكل فى كتابه «سقوط نظام» «دار الشروق - القاهرة».
كان «هيكل» وحسب تأكيده موجدا فى منزل «نجيب» فى «حى الزيتون» بالقاهرة حينما دخل الضابطان، وكان سبب وجوده هو متابعة تداعيات قرار الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادى ضباط الجيش يوم 16 يوليو 1952، نتيجة فوز محمد نجيب برئاسة النادى وسقوط مرشح الملك حسين سرى عامر فى انتخابات عقدت فى الأول من يناير، ورشح فيها تنظيم الضباط الأحرار «نجيب» كنوع من جس النبض لقوة التنظيم أمام الملك.
ويؤكد نجيب «فى مذكراته» كنت رئيسا لمصر عن «المكتب المصرى الحديث - القاهرة»، أن جلال ندا الضابط السابق، والمحرر العسكرى بدار أخبار اليوم، حضر ومعه «هيكل» رئيس تحرير آخر ساعة، ويضيف: «قبل ظهر ذلك اليوم حضر إلى بيتى، جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، يرتدى كل منهما بنطلونا رماديا وقميص أبيض، ووضح من حركاتهما أنهما يريدان أن يسرا إلى بشىء ما، فتركت هيكل وندا فى الصالون وأخذتهما إلى حجرة الطعام، ولكن بعد أن طلب هيكل أن أقدمه لهما، وكان لقاءه الأول بهما.
وفيما يذكر «نجيب» أن هذا اللقاء كان الأول بين «هيكل وعبدالناصر»، يؤكد هيكل أنهما تقابلا ثلاث مرات من قبل، لكنها مقابلات عابرة «كانت المرة الأولى فى فلسطين فى الفلوجة أثناء حرب 1948، وكان اللقاء الثانى فى مكتب هيكل بأخبار اليوم «سنة 1951» عندما أعطى موعدا للصاغ «زكريا محيى الدين» الذى اصطحب معه زميله فى الجيش الصاغ جمال عبد الناصر، أما المرة الثالثة فكانت «مصادفة عابرة لم تستغرق أكثر من دقائق، مساء يوم حريق القاهرة «26 يناير 1952» يتذكرها هيكل: كانت على رصيف «شارع 26 يوليو» أمام محلات شيكوريل، وهى لا تزال مشتعلة ببقايا لهب، وسألنى بصوت مشحون بما يعنى القلق من هذا الذى نراه أمامنا؟ ومن المسؤول عنه؟ ولا أتذكر بما رددت عليه، ومضى كل منا إلى سبيله».
كان لقاء «18 يوليو 1952» هو الرابع طبقا لهيكل، لكنه «الأول» الذى أسس للعلاقة الشهيرة بينهما، ويروى «هيكل» وقائع ما جرى فيه، فبعد خروجهما من بيت نجيب اصطحبهما فى سيارته إلى «محطة رمسيس» بعد أن رآهما على المحطة فى انتظار أتوبيس، وفى السيارة دار حوار بينهم، كان محوره الرئيسى هو اقتراح لهيكل ذكره وهم فى بيت «نجيب»، أثناء مناقشة حول ماذا يمكن أن يفعله الجيش كرد فعل على قرار الملك بحل مجلس إدارة النادى الذى وصفه «عبدالناصر» بـ«الإهانة لأن كرامة الجيش من كرامة الشعب».
اقترح هيكل «قيام ألف ضابط بتسجيل أسمائهم فى دفتر التشريفات بالقصر الملكى ويطلبون إلغاء قرار الحل»، ورد عبدالناصر: «ذلك لو حدث سيعتبر نوعا من أنواع التمرد، وستتصرف السراى إزاءه على هذا الأساس بإحالات للتقاعد وتشتيت ومطاردة»، وفى السيارة تجدد الكلام حول نفس الموضوع، فزاد عبدالناصر: «أى مظاهرة ستعتبر عصيانا، أليس ذلك ما حدث من «عرابى» ورفاقه ثم يتدخل الإنجليز كما تدخلوا سنة 1882، والنتيجة أن الجيش يتحمل على شرفه مصيبة احتلال عسكرى سافر للبلد مرة أخرى، فرد «هيكل» بأن الإنجليز لن يتدخلوا مهما حدث فى القاهرة، فسأله عبدالناصر:
«كيف؟»، فشرح مبرراته وسط دهشة من عبد الناصر، ولما وصلوا إلى رمسيس، سأله عبدالناصر عن إمكانية الذهاب إلى أى مكان لاستكمال الحديث، يقول هيكل: «دعوته إلى مكتبى، وتحركت بالسيارة لكنه لم يلبث حتى بان بأن لديه استدراكا، وسألنى: «مكتبك فى أخبار اليوم؟».قلت: «نعم» قال: هل نستطيع أن نذهب إلى أى مكان آخر؟، وأحس «ربما» أنه مدين بإيضاح فقال بصوت يحمل نبرة اعتذار بما معناه: «يقول الناس أن أخبار اليوم هى جريدة السراى»، وسألته: «إذا كان يجب أن نذهب إلى بيتى»، وأبدى ترحيبا ظاهرا».
يعلق هيكل: «عند هذه اللحظة فقط، أحسست بشعور غريب لم أتوقف لتحليله ليلتها، ولكنى فعلت ذلك عندما سجلت وقائع المقابلة بعدها بتسعة أيام، فقد كتبت: «لماذا أراد أن يستعيد مرة أخرى ما قلته له؟ ثم «ما هو معنى إشارته إلى أن أخبار اليوم هى جريدة السراى؟.
يضيف: «كان اعتقادى ولا يزال حتى هذه اللحظة أن ذلك اللقاء كان حاسما فى علاقة الصداقة التى تأسست عميقة وراسخة بيننا، ذلك أنها وضعت حجر أساس فيه الكثير من الثقة والاحترام».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة