كان مقررا أن يكون الشيخ الجليل محمد الراوى أحد المشاهير الذين نتناول سيرتهم فى هذا الباب قبل أن يتوفاه الله بعد فجر الجمعة سابع أيام شهر رمضان الكريم.
كنا نستعد لنتحدث عن سيرته العطرة وكيف يقضى رمضان هذا العام، خاصة أنه قبل وفاته ظل لفترة طويلة لا يظهر فى وسائل الإعلام أو الفضائيات، حتى إنه تم تداول خبر وفاته أكثر من مرة وهو على قيد الحياة، ولكن اختار الله أن نكتب عن الشيخ الراوى وقد انتقل إلى جوار ربه فى أطيب أيام الله كما كان يتمنى.
التقينا بالشيخ الراوى أكثر من مرة وفى أكثر من حوار، استقبلنا فى بيته واستمتعنا بحديثه.
تسمعه وتراه فتشعر كأنك أمام أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يترك المصحف من يده، وظل كذلك حتى آخر لحظات عمره، يتحدث بالقرآن، يرتعش صوته حين يذكر اسم مصر من شدة عشقه وتعلقه بالوطن، ولا يملك دموعه حين يتحدث عن أحوال الأمة العربية، يجمع بين هيبة العالم الجليل، وبين حنان ورقة استمدها من أخلاق نبينا الكريم، لم ينافق حاكما طوال عمره الذى امتد حتى وصل إلى سن 89 عاما.
ورغم تقدم السن ظل الإمام الجليل طوال الأيام الأولى من شهر رمضان والتى كانت آخر أيامه فى الدنيا يعيش مع القرآن ولا يترك المصحف من يده ولا يقوم إلا للوضوء والصلاة، أراد الله أن يتوج مسيرته وسيرته العطرة بأن ينتقل إلى جواره فى الجمعة الأولى من شهر رمضان.
لم يتورط الشيخ الذى أمتعنا ببرامجه وحديثه الصادق ولهجته الصعيدية المميزة فى معركة شخصية أو مهاترات قد ينجرف إليها بعض المشايخ، فارتبط الجمهور بكل البرامج التى قدمها ووجد فيها ما لم يجده عند الكثير من المشايخ ومنها: «على مأدبة القرآن» و«مع آيات القرآن» و«قصص القرآن» حيث عاش ومات للقرآن ومع القرآن.
حظى بحب وتقدير جميع علماء الأزهر ومشايخه على اختلافهم، لا يستحى أكبرهم مكانة من أن يسرع إلى الشيخ الراوى ليقبل يديه، كان يفعلها الدكتور على جمعة وهو مفتى مصر على مشهد ومرأى من الجميع، بل إن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب زاره فى بيته عندما انقطع الشيخ الراوى، مؤخرا، عن حضور اجتماعات هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف مع وفد من الهيئة بسبب الظروف الصحية، وكانوا يحرصون على إرسال تقارير الهيئة للشيخ الجليل فى منزله للاطلاع عليها، وكان حتى آخر أيامه يتابع هذه التقارير.
يأسر كل من يتحدث معه أو يستمع إليه بعلمه وبساطته وابتسامته ومودته، فيشعر الجميع أنه أب حنون، وعالم يعيدك إلى عصر علماء الأزهر الذين حظوا بحب واحترام وثقة الأمة بالإجماع مثل الشيخ عبدالحليم محمود والشيخ الباقورى والإمام الغزالى.
اعتاد أن يقول كلمة الحق حين يعجز الكثيرون عن النطق بها، كثيرا ما دعا الحكام إلى أن يتقوا الله فى الشعوب وانطلقت دموعه وهو يتحدث عن أحوال المسلمين وأمة الإسلام، يبكى حين يسمع أخبار المجازر فى أنحاء الوطن العربى التى يروح ضحيتها أطفال، وتسفك فيها الدماء ويتناحر فيها أبناء الأمة الواحدة.
كان يشغل نفسه بأحوال الأمة الإسلامية وهمومها فى كل مكان حتى أنه كان سببًا فى إنشاء أول إذاعة للقرآن الكريم بنيجيريا ورفع أول صوت للأذان والقرآن بها، حين تحدث فى أولى محاضراته بجامعة الإمام بالمملكة العربية السعودية التى ظل يعمل بها لمدة 25 عامًا عن مسلمى نيجيريا التى لم يرتفع فيها أى صوت للقرآن، وتساءل: هل من غيور على دين الله؟!، وخلال أيام استجاب الملك فيصل لينشئ أول إذاعة للقرآن الكريم بنيجيريا.
ولد مولانا الراوى فى أسيوط بقرية ريفا عام 1928، نشأ يتيما، حيث توفى والده وكان عمره سنتين، ونشأ مع جدته لأمه «الحاجة وسيلة» التى كانت تحفظ القرآن كاملا، واشتهرت فى قريتها بأنها مثل فى التقى والتدين والرأى الصائب، وعاشت حتى أتمت 100 عام ولم تصب ذاكرتها بأى ضعف فنشأ العالم الجليل على حب القرآن، حيث كان يسمعها تقرأ القرآن فجرا بصوت يبكيه، لذلك تشبع منذ طفولته بحب القرآن ولم يفارقه طوال عمره، يتحدث بنوره ويحمله فى قلبه ويده، واقتبس من جدته النور والحكمة والبصيرة، أتم الراوى حفظ القرآن وعمره 13 عاما، والتحق بكلية أصول الدين وخرج منها عام 1954.
وفور تخرجه تزوج من ابنة خاله وكان عمرها 13 عاما، وهى المرأة الفاضلة التى أحبته وأحبها وارتبطا معا حتى آخر دقائق عمره، اعتكفت بالمنزل لا تخرج منه منذ أن أصبحت صحة الشيخ الراوى لا تسمح بالخروج، ولم تفارقه أبدا، تنظم مواعيده وتقرأ له التقارير، وبرغم أنها تزوجت قبل أن تحصل على الابتدائية فإنه ساعدها فأكملت دراستها حتى تخرجت فى كلية الشريعة، بعدما أنجبت لشيخنا الجليل ابنه الدكتور أسامة وابنته الدكتورة وفاء، وظلت إلى جواره حتى انتقل إلى جوار ربه فجر الجمعة وهو صائم يمسك بكتاب الله، رحمة الله على مولانا الإمام الراوى خير علماء الأمة الذى اختاره الله فى خير أيامه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة