"ياه لقد توقف الزمن عندك أو أمامك" نطقت بهذه العبارة لنفسى، وإن كان صوتى قد علا فسمعه بعض المارة فشخصت أبصارهم حيث نظرت، كان يأتى قبالتى بهيئته التى أعرفها جيدا منذ عشرات السنين، هيكله الضخم وطوله الفارع كنخلة سامقة توشك أن تقع من فرط طولها .
اندفعت إليه وسلّمت عليه بيدى برقة خشية أن أؤذيه لكبر سنه، فوجدته يشدّ على يدى كشاب فى العشرين وعيناه تلمعان ببريق حياة لا يخطئهما الناظر .
كلّمته علّه يتذكرنى وحدّثته عن مواقف قديمة جمعتنى به وبعض الأهل والأقارب، فبادرنى بقوله إنه يتذكرنى جيدا وعدّ لى أسماء لكثيرين سقطوا من ذاكرتى بفعل الزمن وجميعهم قد غيّبهم الموت .
قلت: لكنك كعهدى بك، لا تزال فتيّا لم يمسسك الزمن بضر .!
لم يرد سوى بابتسامة غامضة وأشاح بوجهه بعيدا، وأشار لبنايات حديثة لم تكن موجودة من قبل، ثم تحدث بإفاضة عمّن رحلوا عن الدنيا وذكر محاسن الجميع وتأسف بشدة لغياب البعض .
نظرت له وقد شرد عقلى بعيدا لماضى سحيق، عشرات السنين منذ أن وعيت على الدنيا وهو كهيئته الحالية، لم يناله الكبر كثيرا وتذكّرت أحد الراحلين من الأهل وقد أقسم أنه عاصره طفلا بنفس هيئته لم تنهشه الشيخوخة بأنيابها .
ولا يزال كلّما هلّ علينا أو رأيته، أتنسم عبق ماضى ولّى ويتحدث ويستفيض فتتحول كلماته وذكرياته لأطياف من رحلوا، ينتشرون فى المكان حتى تزدحم بهم الطرقات، نسامرهم ونعرف أخبارهم، ويستمر السمر حتى يؤذّن مؤذن أن "الراحمين يرحمهم الله" فنفيق من سبات عميق .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة