أصعب منصب هذه الأيام هو منصب وزير الداخلية، لأن الوضع اتغير عن زمان، فوزير الداخلية الحالى شخص ينام فى مكتبه، وقد يلتقى مع أبنائه فى مكتبه، ليس بحكم أنه يستغل المكتب الذى تسلمه من الحكومة للقاءات العائلية، وإنما بحكم أنه ليس قادرا على الذهاب إلى بيته، اللى بالتأكيد سيكون أفضل كثيرا للقاء أبنائه، فعليه أن يعمل على مدى اليوم ويزداد العمل فى المناسبات، ففى وقت الأعياد والإجازات يكون هو فى ذروة الانشغال فى العمل، فمطلوب منه أن يؤمن كل هؤلاء الذين يستمتعون بإجازاتهم فى سلام.
أنا أحكى لكم عن واقع، فأى شخص سيشغل هذا المنصب عليه أن يعلم تماما أنه لا راحة ولا نوم، وعليه مواجهة الصدمات واتخاذ القرارات ليل نهار، وتحمل التبعات أمام ضباطه وأمام قياداته وأمام الشعب وأمام الله، وعليه أن يعلم أنه يواجه الموت فى كل لحظة.
ولكن ما هى يوميات هذا المنصب؟
بتركب عربية مصفحة غير مريحة بالمرة، ومغطاة بزجاج أسود، ومعك اثنان داخل العربية يحرسانك، وتذهب إلى مكتبك لأيام أو لأسابيع لا تستطيع أن تعد أحد أبنائك أنك ستكون حاضرا معه فى مناسبة تخصه، ولا تستطيع أن تعطى له سيارة الوزارة ليذهب بها إلى عمله، أو ترسل أحد الضباط كى يساعده فى أوراق تخصه، لأن الدنيا اختلفت ومحدش هايسمح بالكلام بتاع زمان، ومطلوب منك تنسق مع كل الوزارات وتعمل دراسات أمنية لبتاع التموين، وتأمن لوزير الشباب مباريات الكرة، ولو نادى خسر مباراة مطلوب من رجالتك يروحوا يواجهوا شباب غاضب ويحافظوا على المنشآت ويتشتموا ويرجعوا بيوتهم، ومطلوب منك تواجه اعتراض الناس على قرارات اقتصادية، لا أنت ولا رجالتك ليك أى ذنب فيها، ومطلوب منك تروح تطفى حريقة فى حى بأكمله، ويموت اتنين تلاتة من رجالتك علشان فى مواطن جاهل شغل نار جنب خط الغاز، ومطلوب منك تخفى اتنين تلاتة من ضباط مكافحة المخدرات، لأن التجار الكبار بيطاردوهم وعاوزين يقتلوهم علشان مسكوا مخدرات بالملايين كانت هاتدخل بيوتنا، ومطلوب من رجالتك أنهم يقاومون قوة بعض رجال أعمال لديهم مال ونفوذ وإعلام ويريدون مخالفة القانون.
طب كل ده عايشه وزير الداخلية ورجالته ومستعدين له وده قدرهم، لكن الصدمة الحقيقية التى يجب عليك تحملها كوزير داخلية مصر هو عندما تتلقى خبر استشهاد أحد أبناء الوزارة من الجنود أو الضباط، وهنا الأمر يحتاج إلى قوة أعصاب متناهية وإلى قدرة على التمالك والحكمة، واتخاذ القرار المناسب لرد الفعل وعدم الانفعال باتخاذ قرارات رغبة فى الانتقام لا تكون محسوبة، وطبعا مطلوب منك كوزير للداخلية بعد أى خبر لعملية إرهابية واستشهاد أبناء مصر من الداخلية أن تواجه كلا من:
أولا: فريق العمل من حولك، فإذا شعروا أن الوزير تغلب عليه الحزن وانكسرت عزيمته سيتسرب هذا الإحساس لهم جميعا، فالوزير مطلوب منه أن يتماسك أمامهم تماما، وإذا انفعل الوزير وأعطى انطباعات توحى بالانتقام فقد يترجم مساعدوه هذا الأمر لإجراءات استثنائية يدفع ثمنها الأبرياء، فعلى الوزير أن يراعى كل ذلك حتى فى مشاعره الإنسانية.
ثانيا: أسرة الشهيد المتوفى، أذكر أننى التقيت وزير الداخلية الحالى فى صلاة الجنازة على أحد أصدقائى الشهيد تامر العشماوى، رحمة الله عليه، والحقيقة كان الرجل حزينا فعلا، وكانت لديه مهمة صعبة جدا، فقد طلب أن يجتمع فى المسجد مع أم الشهيد وزوجته وأبنائه ولا أدرى من أين أتى بقوة أعصاب لمواجهة دموع هولاء «وقد تكرر هذا المشهد كثيرا»، وهنا أيضا مطلوب منك كوزير للداخلية أن تتعهد أمامهم بتعهدات لا يجوز الرجوع فيها، وهم وأبناؤهم فى رقبتك إلى يوم الدين.
ثالثا: الرأى العام ووسائل الإعلام: على الساعة التاسعة مساء يبتدى الوزير يسمع بقى كلام من نوعية التقصير الأمنى، وليه ماضربتوش من الشمال بدل اليمين، وفين الداخلية ولحد إمتى هانفضل كده وأنتم مش شايفين شغلوكم وكلام بقى أحيانا بأدب وأحيانا بقلة أدب.
أيوه قلة أدب مع وزير الداخلية، وعلى مرأى ومسمع من الجميع وطبعا هذا الكلام بيسموه حق النقد المباح، وكل واحد بقى وعلامه وتربيته فى موضوع استخدام حق النقد.
وبرضه الوزير مطلوب منه أن يتحمل كل ذلك، فهذه هى الوظيفة العامة وهذه هى تباعتها، ولو جورنال قرر يعمل موضوع صفحة أولى عن تقصير الداخلية، واللى لو الناس اللى على خط النار من جنود وضباط قرأوه تبقى مشكلة معنوية كبيرة، ويروحوا يقولوا لرئيس التحرير ياسيدى بلاش كده إحنا فى وقت صعب، يعمل فيها بطل على حساب الموقف، ويصور نفسه للشعب ضحية إجراءات وزير الداخلية.
يا أخى هاتلى ما يثبت إن الوزير خد عشرة جنيه زيادة من الوزارة وأنا أول واحد يطالب بمحاكمته، لكن إحنا بنقولك نوع من المواءمة بين مصلحة البلد وبين حقك فى النقد، ولا تنسى أن لدينا قوات نظامية تحارب وأيضا ثقافتها متفاوتة، وإن وضعت نفسك مكانه، ولن تستطيع، الله أعلم كيف سيكون حالك.
إن الإرهاب خطر يهدد كل بقاع العالم، وأتحدى أن توجد حكومة فى العالم تستطيع أن تؤكد لمواطنيها أو للمقيمين على أراضيها أنهم فى معزل عن الإرهاب فى باريس ولندن ونيويورك، وحتى السويد اللى بيناموا بدرى، شهدت كل هذه المدن حوادث إرهابية ولم تستطع أى دولة أن تقول إنها تمكنت من السيطرة على الإرهاب فى أراضيها، وتحمل مواطنو هذه الدول من الإجراءات الكثير، ولا توجد إرادة حقيقية لدى المجتمع الدولى فى محاربة الإرهاب، فالجميع يعلم أن دولا تموّل وأسلحة تشترى وسيارات ودعم لوجيستى من أجهزة مخابرات، ولا يفيق أحد، والضحايا والدماء تملأ شوارع مدن العالم كل يوم، وعلى رجال الجيش والشرطة فى كل الدول مواجهة هذا الخطر.
مخطئ من يعتقد أننى بهذا المقال أنفى أن وزارة الداخلية فى مصر ليس لديها أخطاء، بالعكس ومن الطبيعى جدا حال توسيع دائرة الاشتباه أن يكون هناك أخطاء بعضها توصف بالغبية وبعضها يأتى نتيجة الظرف الأمنى، ولا يمكن أن نقبل تماديها وإن كنا نتفهم حدوثها، إوعى تفتكر إن تعليم الطبيب والمهندس والمحامى مختلف عن تعليم أمين الشرطة وضابط الشرطة، فكلهم تعلموا فى المدارس اللى ماكنش ليها سور «إلا من رحم ربى»، فبالتأكيد مش كل حاجة امتياز فى مقبول وضعيف.
وبعدين أنا راضى ضميرك أنت بتقرأ كمية أخبار عن محاكمة ضباط شرطة جنائيا بشكل غير عادى فى الأيام الماضية، وعلشان الضابط ده يتحاكم لازم ظابط زميله يكتب ضده تحريات، وطبعا لو العملية فيها طرمخة ماكنتش لا شوفت ولا سمعت عن أى من هذه المحاكمات فى جرائم جنائية ضد مواطنين عاديين، ده غير بقى اللى بيحيلهم الوزير نفسه للمحاكمة، نتيجة التقصير أو الإهمال.
وهنا لابد أن تصل هذه الرسالة إلى الوزير ورجاله، لابد أن تعلموا أن الغالبية العظمى من هذا الشعب تقف بحق وراء هؤلاء الرجال من الجنود والضباط الذين يموتون كل يوم كى نعيش نحن وأبناؤنا فى أمان، لابد أن يعلم الوزير أنه هو من حلف اليمين وهو من سيحاسب أمام الله على الأمانة، فعليه ألا يلتفت للصغائر، وأن يتغلب على كل محاولات البعض اصطناع بطولات زائفة على حساب المواقف.
على الوزير أن ينقل رسالة إلى رجاله، مفادها أن الشعب المصرى لن ينسى هذه البطولات وتلك التضحيات، عليه أن ينقل رسالة إلى أسرته، ويعلمهم أن الوطن أهم وأنه فى تاريخ الدول أوقات لابد فيها من التضحيات كى يبقى هذا الوطن.
وفى النهاية، تذكر يا سيادة الوزير أن لدينا ثأرا لابد أن نأخذه، ورغم قسوة الظروف وكثرة التحديات «ورغم المقال ده» فلا أعدك بشىء إن خالفت القانون فى أى وقت سوى أن أطلب محاكمتك مثلك مثل أى مواطن يخالف القانون، فهذه هى المعادلة التى ارتضيت بها، التى تعمل على إرسائها، كى نبنى دولة قانون بالفعل لا بالشعارات، شد حيلك وربنا معاك أنت ورجالك وإحنا فى ضهركم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة