تمر السنوات عاما بعد عام، أسرع مما نتخيل أحيانا نقف لنلتقط أنفاسنا ونتساءل هل حقا مرت 12 عاما على رحيلك؟ كيف لم نعد نشعر بإيقاع ومرور السنوات لهذه الدرجة؟ خصوصا وأننى أشعره قريبا جدا كأنه بالأمس كان هنا بالأحرى هو لم يغب يوما بل إنه صاحب حضور طاغى يتأكد يوما بعد يوم إلى أن صار يقينا بداخلى لست وحدى أملك هذا اليقين بل بالتأكيد كثيرون مثلى.. والذين وقعوا فى غرام الشخصيات التى قدمها وعشقوا روحه الآسرة، وإخلاصه لعمله على حساب نفسه وحياته الشخصية.
بالتأكيد أعشق أحمد لنفس الأسباب.. ولكنى منذ اللحظة الأولى التى التقيته فى بداية مشوارى المهنى صار هذا السؤال يلح على دوما لماذا أحب هذا الرجل؟ وحتى الآن يلازمنى السؤال نعم أنا أحب الرجل أحمد زكى وليس فقط الممثل؟ اليوم فقط أملك إجابة واضحة على هذا السؤال عندما استدعى تفاصيل صغيرة من لقاءات متعددة.. هو رجل لم يكن أبدا يخفى ضعفه الإنسانى، كان يبكى ويبوح بكل ما آلمه فى حياته، عندما يحب كان يقع فى الحب دون حسابات وعندما يكتشف الخيانات كان يصرخ من سوء تقديره للبشر وعدم تركيزه مع التفاصيل، كما أنه أبدا لم يهن امرأة عاش معها قصة حب بل دائما كان مخلصا لمشاعره الأولى ناحيتها، يبكى وجع اليتم ورغم أنه صار فتى مصر الأسمر وأهم نجومها كان يروى أمامى بنفس الانفعال الذى عاشه فى الماضى عندما رفض منتج أن يسند إليه دور البطولة أمام سعاد حسنى قائلا: "إزاى سعاد حسنى هتحب الواد الاسود دا ابو شعر أكرت ".. ويكررها وكأنه على وشك الانفجار: "مشفش فيا غير الواد الأسود" ثم يعقبها بابتسامه واهنة يمكن عشان كدا بحب "الستات البيضا"؟ وأبدا لم أنسى كيف كان يربت على كتفى بحنان بالغ كلما التقينا ذلك هو الرجل الذى أحببته والمعروف بالنجم المتفرد أحمد زكى.
المشهد رقم 1
غرفته فى رمسيس هيلتون
هناك فى غرفته التى يقطنها فى فندق "رمسيس هيلتون"، وقتها كان يحضر لفيلم السادات ووقتها اصطحبنى الزميل أسامة عبد العزيز الصحفى المحترم _(والذى كان فى الصفحة الأخيرة فى الأهرام فى هذا الوقت)_لرؤيته بعد إلحاح منى كيف أضيع فرصة كهذه وفى هذا الوقت كان أحمد فى بداية مشروع الفيلم والذى أخذ سنوات من الإعداد وتغير عليه كتاب ومخرجون.
أحمد زكى فى إحدى جلسات التصوير
وقتها استغربت أن نجما بحجمه يجلس فى غرفة صغيرة مليئة بالكتب فى كل أركانها، مد أحمد يده وصافحنى بحرارة كأنه يعرفنى منذ سنوات مضت، وقتها جلست للحظات حتى أستجمع نفسى وأردد فى داخلى هل حقا أجلس فى حضرة أحمد زكى.. والذى بدأ يتحدث بحماس ويروى عن شخصية السادات وكيف أنها تملك كل مقومات الشخصية الدرامية.. ولم يغب عنه أبدا أن يراقب تعبيرات وجهى وأنا أستمع إليه أنا الضيفة الجديدة التى حلت عليه ومن حدة ذكائه لا حظ أن عينى ركزت "على مجموعة من الأرغفة يعرف فى بلدنا والأرياف بالعيش البطاطى موضوعة على التربيزة" وبسرعة فاجأتنى قال لى ضاحكا: طبعا بتقولى نجم ايه دا اللى بياكل عيش ناشف".. بصى ياستى أنا عندى معدة عصبية والعيش دا بيريحنى وجالى من البلد" وقتها شعرت بالخجل من نفسى ولكن طريقته جعلت كل شىء يبدو بسيطا.
إلى أن دق الباب وكنت أنا الأقرب إليه فتحت ووجدت أمامى ابنه هيثم _(والذى كان وقتها فى عمر الـ12)- فى هذه اللحظة شاهدت أحمد زكى آخر وكيف تحول لطفل وهو يضم هيثم لصدره.. وكيف غضب عندما رفض هيثم أن أقبله وقتها قال له: "مش عيب ولا حرام"، ومال على أذنى قائلا: بحاول أصلح حاجات دا طفل ولكن يبدو أن نقاب والدته _ كانت الفنانة هالة فؤاد زوجته السابقة قد ارتدت النقاب لفترة _ ثم خلعته واكتفت بالحجاب بعد ذلك.
المشهد 2
ترابيزة الكاتب وحيد حامد فى المريديان
فى هذا المكان تعددت اللقاءات.. وصار من الطبيعى أن أجد أحمد يمر على الأستاذ ولكنه دائما كان يحضر باكرا حيث إنه لم يكن ينام قبل الحادية عشر صباحا يتناول القليل من الطعام فى "رمسيس هيلتون" ويمر على بلدياته وكاتبه المفضل الذى قدم معه عددا من أهم أفلامه كنت دائما ما أراقب تفاصيل العلاقة بين الاثنين والتى كانت تحمل الكثير من المحبة والمشاكسة وأيضا الخوف حيث إن الكاتب الكبير كثيرا ما كان يخشى على أحمد من عصبيته الزائدة وكرمه الذى يصل إلى حد البذخ _( كان أحمد وبمجرد أن يحصل على عربون أى فيلم يصرفه فى الحال يصطحب أصدقاءه ويجلس فى وسطهم صناعا صخبا من نوع خاص هو صخب الحكى المصحوب بتقليد الشخصيات التى يحكى عنها)_ وفى إحدى المرات سأله الكاتب وحيد حامد: يا أحمد ليه مش بتروح تعيش فى شقتك؟
احمد زكى وسناء جميل
وقتها رد بانفعال وهو ينقل نظره بينى وبين الأستاذ: "ما بحبش الوحدة وبعدين نبيلة _ كانت مسئولة عن منزله ترتيبه وإعداد الطعام _ معلقة صورة حسين فهمى فى أوضتها؟ ينفع كدا وقولتلها أكتر من مرة طب جاملينى وحطى صورتى جنبه أنتى فى بيتى برضه أنا عارف إنه حليوة وعنيه ملونة؟ ووقتها انفجرنا فى الضحك من تعبيرات وجهه وبنفس سرعة إلقائه الجملة وقف وغادرنا قائلا هروح أنام.
أحمد زكى وطبيبه المعالج
احمد زكي ومحمود عبد العزيز وسمير غانم
المشهد 3
جريدة الأهرام
كان يوم وفاة المبدعة العظيمة المتفردة أيضا "سعاد حسنى". فى هذا اليوم وجدت أحمد فى حالة لم أعهده عليها من قبل كان فى الدور الرابع بجريدة الأهرام يرتدى بنطلونا وقميص جينز وتحت القميص تى شيرت أبيض ويضع نظارة سوداء على عينيه رغم أنه كان شاخصا تجاه الأرض لا ينظر يمينا أو شمالا.
أحمد زكي وهيثم في طفولته
وفى تلك اللحظة التى كان ينتظر فيها الزميل محمود موسى ليصعد معه إلى إدارة الإعلانات لنشر نعى لها.
وهى اللحظة التى لم أستطع الاقتراب منه لأول مرة كان الحزن يحيط به وكأنه توحد معه.
وفى هذا النعى الذى لم أنس كلماته كتب زكى: «إليها.. هى.. يا أكثر الموهوبين إتقانا.. وأكثر العباقرة تواضعا.. وأكثر المتواضعين عبقرية.. بوجودك ملأتِ قلوب البشر بالبهجة.. وبغيابك ملأتها بالحزن.. استريحى الآن.. اهدئى.. يا من لم تعرف الراحة من قبل.. لك الرحمة وكل الحب والتقدير.. أسكنك الله فسيح جناته.. يا من جعلت حياة الناس اكثر جمالا.. الفنان أحمد زكى".
المشهد 4
غرفة 2229 دار الفؤاد
بعد اليوم الذى تم فيه نشر خبر مرض "أحمد زكى" وانتقاله إلى مستشفى دار الفؤاد فى الغرفة رقم "2229" صار لدى رحلة يومية مثل غيرى من محبيه أذهب إلى 6 أكتوبر ومنها مستشفى دار الفؤاد رأيته أو لم آراه المهم إنى أذهب واطمأن من "رسام الكاريكاتير الراحل" سمير ابن خاله والفنانة رغدة والزميل محمود موسى والمقربين الذين كانوا يتوافدون عليه باستمرار وانتظام.
أحمد وسعاد موعد علي العشا 2
ولكننى لا أنسى اليوم الأخير الذى شاهدته فيه كنت سأذهب إلى مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط فى المغرب وقبل السفر بـ3 أيام قررت الذهاب لرؤيته وقتها جلست كثيرا فى الصالون المرفق بحجرته وقالت لى الفنانة رغدة التى كانت ترافقه فى هذا اليوم: "لو دخلتى بلاش تطولى عشان هو مرهق" يومها أومأت برأسى وفوجئت به ينادى باسمى: علا تعالى قاعدة بره ليه" دخلت إليه وكعادته قبل راسى وأشار لى أن أجلس على طرف السرير وقبل ان أجلس وفى حركة لا إرادية "شديت" ملاءة السرير لأعدل من وضعها وأعيد ترتيبها "ضحك وهو يردد الله شفتى يا رغدة علا بتعمل ايه؟ يومها قولتله عادى يا أستاذ بعدلها بس رد معلقا مش أى حد يعمل كدا وبدأ يسألنى إيه الأخبار بره؟ والجرايد بتقول إيه ورغدة تشير بيديها أن أقلل الكلام فى هذه اللحظة شعرت أن شهيته للحديث مفتوحة يريد أن يسمع حتى ما يعرفه.
ومع إشارات رغدة توجب على الانصراف وبمجرد أن خطوت خارج الغرفة وما بين الباب الذى يفصل الصالون عن غرفته فوجئت بصوته ينادى باسمى مرة ثانية التفت لأجده فى مواجهتى وصوت رغدة يلاحقه المفروض تستريح.. وسمير يقف خلفى مبتسما.. واقترب منى وسألته عايز حاجة يا أستاذ أعملها؟
احتضننى بقوة وهو ينظر فى عينى نظرة طويلة مرددا: لا يا علا بسلم عليكى بس خدى بالك من نفسك ووضع قبلته الأخيرة على رأسى.. وأنا أردد هسافر وأرجعلك هتكون زى الفل ومضى تجاه غرفته والتفت إلى قائلا: خدى شوكولاته من سمير.
وليتنى لم أسافر حيث غادرت فى 24 مارس وجاءنا خبر وفاته فى تطوان 27 مارس 2005.
محمود عبد العزيز وأحمد زكى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة