كنت فى زيارة لأحد الأصدقاء، بمنطقة " الطالبية- هرم"، ولحظى العثر، يسكن الرجل فى نهاية شارع عثمان محرم، ولمن لا يعرف هذا الشارع، فالتوك توك والعربات الربع نقل تتزاحم على جانبيه يمينا ويسارا، والمحلات والإشغالات المخالفة تبرز العشوائية فى أبشع صورها، فما كان أمامى سوى استقلال توك توك، باعتباره الوسيلة الأسرع فى ذلك المكان.. وبنهاية المشوار ، الذى لا يزيد بأى حال عن كيلو متر تقريبا ، أخرجت من جيبى خمسة جنيهات، نظير الأجرة ، فما كان من السائق إلا أن ثار غاضبا:" خمسة جنيه ايه يا أستاذ، المشوار دا بـ 10 جنيه ، الـ 5 دى كانت زمان"، وطبعا دفعت الـ 10 جنيه من سكات، خوفا من بطش الشاب العشرينى، الذي صم أذنى بأغانى المهرجانات ، وصخب الكاسيت، الذى غطى على ضجيج الشارع.
تذكرت سريعا مرفق النقل الحيوى الأهم فى مصر "مترو الانفاق" ،الذى تحاول الحكومة رفع تذكرته منذ سنوات، ولم تتحل بالجرأة الكافية لاتخاذ هذا القرار ، على الرغم من أن التعويم ، وارتفاع أسعار المحروقات، وكل السلع الأساسية ، كانت كافية تماما لمضاعفة سعر التذكرة كحد أدنى.
وحتى لا نسقط فى فخ المزايدة، والجدل الزائف والكلام الإنشائى، الذى لن يقدم أو يؤخر، فإن رفع سعر تذكرة المترو لا علاقة له بنصرة الفقير أو حماية محدودى الدخل والطبقات المعدمة، ولكن له علاقة مباشرة بمدى قدرة هذا المرفق على الاستمرار فى تقديم الخدمة للمواطن من عدمه، وما يتبع ذلك من تطوير للقطارات وتوسعات معتبرة تستوعب الكثافات السكانية المتزايدة.
وحتى لا يتهمنى أحد بمعاداة البسطاء، فإننى لست من المحسوبين على الطبقات الثرية أو "أولاد الذاوات"، فحتى كتابة هذه السطور لا أملك سيارة، وأعتبر المترو ووسائل المواصلات العامة ملاذى الآمن فى تحركاتى بالمحروسة، وبالأرقام يحتاج المترو لتوفير 30 مليون جنيه شهريا، حتى يغطى نفقاته، بل إن الخبر الأول على محرك البحث جوجل عندما تكتب مترو الأنفاق، هو " المترو يقترض 10 ملايين جنيه من السكة الحديد لتغطية رواتب يناير" ، بل إن الأمر تجاوز إلى فكرة أن هذا المرفق الهام لا يدفع فواتير الكهرباء والمياه، ومصاريف الصيانة الدورية وشركات الأمن والنظافة، ولا مجال سوى رفع التذكرة ضعفين أو ثلاثة حتى يستمر فى نقل ملايين الركاب يوميا.
والحقيقة لا أفهم المبرر الواهى الذى يعوق قرار رفع تذكرة المترو ، بل إننى أرى أنه نفس المبرر ، الذى جعل الحكومة تتراجع عن قرار رفع الضرائب عن " الفراخ المجمدة" الواردة من الخارج، بعد صدوره بأيام، تحت ضغوط وهمية من "السوشيال ميديا" وبعض الأقلام العابثة، ولا أعرف ماذا ينتظر الدكتور هشام عرفات، وزير النقل ؟!! هل ينتظر تراكم المزيد من الديون؟ أم ينتظر إضراب العمال والسائقين والموظفين بعد العجز عن دفع رواتبهم ومستحقاتهم؟ أم أن رجال الصف الثانى والثالث بالوزارة مازالوا يؤكدون لعرفات كما أكدوا لمن سبقوه أن رفع التذكرة خطر يهدد كرسيه.
لماذا تتأخر الحكومة فى قرار زيادة أسعار تذكرة المترو، بالرغم من أن تذاكر القطارات، خلال السنوات العشر الأخيرة زادت بنسبة تزيد على 100 % ، مع العلم بأن السكة الحديد مرفق حيوى جدا واستراتيجى ، ولا يقل أهية عن المترو.
ولمن لا يعرف، فإن سعر تذكرة المترو في مصر يعادل " 5 سنتات"، فقد كنت فى رحلة عمل بالعاصمة الفرنسية باريس الصيف الماضي، وقادنى الشغف إلى ترك زملائى، لأتجول منفردا، وأخوض تجربة استقلال مترو الأنفاق فى مدينة النور.. لأجد سعر التذكرة 1.8 يورو ، أى ما يعادل 35 جنيها تقريبا، وقد كنت أركب لمحطات الخط الأول التى تعتبر الأقل تكلفة، وهناك.. لا موظفين لقطع التذاكر، فقط ما كينة إلكترونية تضع بها النقود وتقدم لك التذكرة.
أعرف جيدا أن القاهرة ليست باريس، والفرق واضح للأعمى والبصير، ولكن لا توجد دولة فى العالم المتقدم أو النامى سعر تذكرة المترو بها يعادل 5 سنتات أو " جنيه مصرى " ، وأى إدارة رشيدة لا يمكن أن تمنحك تذكرة تنتقل بها من المرج إلى حلوان – عشرات الكيلو مترات – بجنيه واحد فقط.
لا تحاولوا إقناعى بأن معوقات رفع تذكرة المترو فنية، ارتباطا بفكرة أن الماكينات مبرمجة على سعر الجنيه ، وكذلك الأجهزة، التى يتم من خلالها الحجز ، لأن من يركب المترو يعرف جيدا أن هذه الماكينات فى الغالب لا تعمل ، وقد استعاض عنها المترو ببراميل مفتوحة للتخلص من التذاكر قبل خروج الركاب من المحطات.
أرجوكم ابحثوا عن حل حتى نحافظ على هذا المرفق الحيوى ، الذى لا يمكن أن نتصور القاهرة حال تعطله، ولا تقعوا فى فخ الضغط الوهمى مرة أخرى، فالزيادات التى طالت الكهرباء والمياه ، والغاز، والبنزين، والزيت ، والسكر، واللحوم ، وألبان الأطفال ، والحفاضات..الخ تجعلنى أتعجب ممن يقفون أمام قرار زيادة سعر تذكرة المترو!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة