احتفت صحيفة الإكونومست البريطانية بالعالم المصرى الكبير مصطفى العبادى الذى رحل عن عالمنا يوم 13 فبراير الماضى عن 88 عام، وهو صاحب فكرة إعادة تأسيس مكتبة الإسكندرية، والذى لم يدعوه نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك لحضور افتتاحها.
وجاء احتفاء الإكونومست فى مقال ينعى الأب الروحى للمكتبة من المقرر نشره غدا السبت.
الأستاذ الدكتور الراحل مصطفى العبادى - إكونومست
وقالت الصحيفة إن "الكون" بالنسبة لأستاذ الآثار والدراسات اليونانية والرومانية كان هو مكتبة الإسكندرية العتيقة التى احتلت عقله وقلبه منذ أن كان طالبا.
منظر تخيلى لمكتبة الإسكندرية القديمة - أوتو فون كورفين فى القرن الـ19
ونقلت عن العالم المصرى قوله: إن المكتبة الأصلية مولها بطليموس الأول، أو ملوك الفراعنة البطالمة (323 ق.م. – 283 ق. م.)، مستلهما غزوات الإسكندر الأكبر، وآملا أن تشمل "كل النصوص التى تستحق الدراسة فى العالم"، وأبرزت لأول مرة فى التاريخ تنوع الجنس البشرى وكوكب الأرض.
تمثال من الرخام للإسكندر الأكبر فى المتحف الأثرى فى إسطنبول
وكانت المكتبة تحتوى على نصف مليون كتاب أو أكثر، وتمكن بطليموس الثالث من الحصول على النسخ الأصلية لمسرحيات لسوفوكليس وإسخيلوس ويوربيدس، كتّاب التراجيديا الإغريقية. أما الدكتور العبادى فكان متأكدا من أنها كانت تحوى كذلك كتب من فينيقيا ونصوص بوذية من الهند والسبعينية (الترجمة اليونانية للعهد القديم) وكتابات زرادشتية، وهى واحدة من أقدم الديانات التوحيدية فى العالم، من بلاد فارس.
من اليمين - كتاب التراجيديا الإغريقية سوفوكليس وإسخيلوس ويوربيدس
وأشارت إلى أن الدكتور العبادى كان يتمنى أن تكون مكتبة الإسكندرية هى الأولى من نوعها، بما أنه "سكندرى فخور"، كما كان أبواه وزوجته الراحلة عزة كرارة وأبواها، وبما أنه تقلد مناصب رفيعة فى جامعة الإسكندرية وكان محبا لإطلالة البحر من شرفته فى شقته الأنيقة المكتظة بالكتب، على حد قول الإكونومست.
وأوضحت أنه كانت هناك مكتبات فى سوريا وبابل من قبل، بالإضافة إلى معبد الكرنك المصرى، إلا أن هذه كانت مؤسسات إقليمية ولها اهتمامات محلية، عكس "مكتبة الإسكندرية التى كانت الأولى التى بنيت لتكون بمثابة مستودع لجميع المعارف الإنسانية: الكون تحت سقف واحد".
وكان الدكتور العبادى يؤكد أن مكتبة الإسكندرية لم تكن مجرد مجموعة من النصوص، بل كان "القلب الحقيقى للمؤسسة هو ’الموسيون‘ أو معبد ربات العلوم والفنون، والذى كان مركزا للبحوث"، بحسب الصحيفة.
ويقول العبادي: فى ممرات وأروقة المكتبة، صاغ إقليدس، أبو الهندسة، نظرياته وكتابه الأشهر "العناصر"، وقام إراتوستينس، وهو عالم رياضيات وجغرافى وفلكى، بقياس محيط الأرض، وأثبت عالم التشريح هيروفيلوس أن الدماغ، وليس القلب، هو مقر التفكير، كما "بلغ الفيلسوف أفلوطين الاتحاد الكامل مع الربوبية أربع مرات".
تمثال لإقليدس فى متحف جامعة أوكسفورد
قام إراتوستينس بقياس محيط الأرض من خلال حساب المسافة بين أسوان القديمة والإسكندرية وزاوية تعامد الشمس على أسوان - موسوعة بريتانيكا
هيروفيلوس يقوم بتشريح جثة - كلية الطب الجديدة فى باريس
الفيلسوف أفلوطين
وبعودة الدكتور العبادى لمدينته عام 1960 بعد حصوله على الدكتوراة من جامعة كمبريدج البريطانية، شعر بالأسى لأن الإسكندرية الحديثة لا تمتلك مكتبة عظيمة، كما نقلت عنه الصحيفة.
وكان الدكتور العبادى يلقى بلائمة حرق المكتبة على يوليوس قيصر (100 ق. م. – 44 ق. م.) بثقة رغم تواجد نظريات بحرقها على يد الإمبراطور اليونانى أوريليان (قُتل عام 275 ميلادية) أو بأمر من بطريرك الإسكندرية ثيوفيلس (توفى عام 412 ميلادية) أو مع دخول المسلمين مصر عام 642 ميلادية أو بعدها.
مشهد اغتيال يوليوس قيصر
وقالت الصحيفة إن أعجوبة المكتبة حُفرت فى ذاكرة العالم بصورتها فى الإسكندرية كمدينة عالمية للفكر، وبنيت مكتبات تحاكى المكتبة القديمة فى بغداد وقرطبة ولندن وواشنطن.
حرق مكتبة الإكندرية لوحة لأمبروس دادلى فى العشرينيات من القرن الـ20
وفى السبعينيات من القرن الماضى، بدأ الدكتور العبادى بطرح حلم إحياء المكتبة، وفى عام 1986 وافقت اليونسكو على المساعدة فى بنائها وبدأ توفير المال اللازم للمشروع الذى دفعت فيه مصر نصف التكلفة، أى 225 مليون دولار.
وبدأ الدكتور العبادى فى جمع كل المراجع الببليوجرافية الممكنة عن مدينة الإسكندرية، ثم مصر، والشرق الأوسط، وأفريقيا بغرض الانتقال لمرحلة جمع الكتب عن العالم أجمع.
وتابعت الإكونومست، نقلا عن العالم الراحل: "إن المكتبة الجديدة، مثلها مثل القديمة، ينبغى أن تكون عالمية وتتلقى التبرعات من جميع البلدان، ويجب رقمنة النصوص (على الرغم من أن العبادى كان يحب الكتب الحقيقية وليس الشاشات) وعليها أن تجذب العلماء لمعبد ربات العلوم والفنون الجديد حيث بإمكانهم أن يعملوا فى جو شبه مقدس من التسامح والأفكار النيرة".
وأكدت الصحيفة أن "نظام حسنى مبارك لم يتمكن من استيعاب ما كان يقصد (العبادى). فتصور المسؤولون مكتبة كبيرة ومركز ثقافى مصرى".
وفى عام 2002 تم افتتاح المكتبة من 11 طابق وثمانية ملايين كتاب وأربع متاحف و19 صالة عرض وقاعة حضارية فيها شاشة تفاعلية ضخمة ومتاجر للهدايا. وكان أحد المتاحف يحتوى على أمتعة الرئيس الراحل أنور السادات الشخصية.
وأهدى الدكتو العبادى للمكتبة نسخته الثمينة التى تعود للقرن السادس عشر من كتاب"قانون جستنيان" الذى تم جمعه فى القرن السادس، وهو الكتاب الذى بدا "غريبا على المكان"، على حد قول الصحيفة. ويعود تاريخ الكتاب لأمر الإمبراطور البيزنطى جستنيان الأول (527 م – 565 م) بجمع قوانين مدنية من حول العالم.
ولم يتم دعوة الدكتور العبادى لحفل الافتتاح، فهو كان معروفا بأن لديه تحفظات، كما أنه أحدث ضجة عندما "لمح الجرافات وهى تلقى بقطع من الفسيفساء فى البحر، إذ شمل المشروع أعمال حفر ضخمة فى موقع قصر البطالمة". وكان ما رآه حادثا جللا، إذ أن فكرته عن الإجازة هى القيام بجولة فى الأطلال التاريخية عبر الشرق الأوسط، طبقا للإكونومست.
وقالت الصحيفة: "لم يبك حول استبعاده، لكنه ظل هادئا فى دراساته بصحبة قطته كليوباترا. على الأقل تم توزيع كتيبه عن المكتبة الكبرى (كتيب فقط، فهو كان يصر على أنه ليس بكتاب)، فى الافتتاح. وتضيف الصحيفة: هو قام بعمله، وهم قاموا بعملهم".
وتابعت الصحيفة إن الدكتور العبادى قال إن المكتبة تقوم بدور مركز ثقافى فعال، ولكنها لا تعمل كمركز عالمى للبحث.
واختتمت الإكونومست المقال بالقول: "إن أرخميدس (عالم الفيزياء الذى صاح "وجدتها" أثناء استحمامه لدى إدراكه أن حجم أى جسم إذا تم غمره فى الماء يساوى حجم الماء المزاح) وجالينوس (أحد أعظم أطباء العصور القديمة) لم يكونا ليستغرقا فى أفكارهما تحت هذه الشاشة التفاعلية. إن ربات العلوم والفنون لم يكن ليلمسن قلوبهم وعقولهم. ولم يكن أفلوطين ليكتب.
مقتل أرخميدس على يد جندى رومانى - لوكا جيوردانو
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة