فى منطقة الغورية بقلب القاهرة الفاطمية، وبالقرب من الأزهر الشريف فى حى أصلان بالدرب الأحمر.. فى مستودع المصبغة يجلس رجل كبير على كرسى فى مصبغته يتابع حركة العمل داخلها، ويصدر تعليماته لمن يعملون معه فى المصبغة بكل حب.
فيها عايش "عم سلامة" حكامًا كثيرين لمصر، من الملك فاروق وحتى الرئيس السيسى، غير أن أسلوبه فى العمل لم يتبدل حتى أنه أورث للعاملين معه هذا الأسلوب.. فى حين أن شخصين يتنقلان بالمكان، ليصيرا مع عم سلامة أشبه بخلية صغيرة تعمل فى المصبغة.
قطعة القماشية بتلون باللون المطلوب، يحملها الزبون للمصبغة قديمة الملامح، يعرف الرجال ما يريده القادم بالضبط، ليُخففوا درجة اللون أو يجعلونها قاتمة. يعملون بأيديهم على مدى الأيام والساعات، أيدهم إلا آلات عتيقة تُساعدهم فيما يفعلون فى صبغة الخيوط.. ساعات تبدأ مع ضوء الشمس وتنتهى فى العصر من العمل والعرق من كثر التعب.
خيوط يغمسها الرجال فى المياه، فيزداد بياضها نصاعة فى شكل جميل، وينقلونها على أكتافهم، يغمرونها بالصبغة فى المياه، ثم ينفضونها قليلا، ليتخللها اللون المطلوب.
تبدو حيطان المصبغة كئيبة، يكسوها الصدأ، جوانبها متآكلة، كأنما عشّش بها الزمن فابتلعه الزمن، بين اللون الأصفرار الغالب على الجدران، تبدو الخيوط زاهية، تسر العاملين وتداعب بعضهم البعض، لكنها رغم ذلك ما زالت تحتاج للتجفيف بإحدى الآلات ، فلا تستغرق إلا دقائق لتصل للشكل الأخير بسطح البناية، إذ يعلقها أحدهم كى تصبح جاهزة للاستخدام والبيع.
تصبح الخيوط لامعة وتُباع بالكيلو فى النهاية، لا يكل "عم سلامة" مما يفعل يوميًا. يرضى بالقليل الذى يحصل عليه، بل يزداد عدد مساعديه كلما يُقبل أشخاص أكثر على المكان. حياة "عم سلامة" معلق بالمصبغة، فيها قضى شبابه، وعلى مقربة منها يسكن.. ضياء الخيوط يجذب قلبه كلما ذهب إلى مكان، وتكون بداخلها كملك يأبى التنازل عن العرش، إلا أن يظفر به الموت.
حكى لنا عم سلامة بعد أن استقبلنا بوجه بشوش وملامح ما زالت تعاند الزمن رغم أثاره الواضحة عليها، عن حياته فى النسيج اليدوى، ما جعله يحب مهنة الصباغة اليدوية التى ترتبط بالنسيج اليدوى، وبعد نظرة تأملية للمكان، تنهد عم سلامة ثم أخبرنا بأن هذه المصبغة البالغ عُمرها ما يزيد عن مائة عام، حيث حرص على أن تصبح له مصبغته الخاصة، وفى مطلع القرن العشرين، لجأت مصبغة عم سلامة بالدرب الأحمر لحرق الأخشاب بعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى.
ويقول عم سلامة، أنا موليد 1937، ويبلغ من العمر "80 عاما"، إنه أتى من القليوبية فى عام"1947" واشتغل فى أكثر من مكان ولم يحب أن يعمل فى مكان غير المصبغة ويحكى أن المصبغة منذ سنة "1901" وأنها تبلغ أكثر من 117 عامًا، وعنها يقول: "المصبغة بلدى وأسمها مصبغة العمل وتعمل فى جميع الألوان وأن الطلب على الخيوط بيكون من كل مكان".
وتحدث أن المصبغة: كانت تعمل بالغاز والسولار وبسبب ارتفع الأسعار تم التغيير بالخشب كام كان يعمل فى سنة 50، وأنه مش هيتحمل ارتفع الغاز والسولار وكمان الزبون مش هيتحمل".
وعن ارتفاع الأسعار قال: إن "سعر الصبغة كان زمان 30 قرشًا والنهارده بـ5جنيهات.. يعنى فى فرق بين الحياة وبعضها".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة