على مدار الربع الأخير من القرن العشرين وحتى الوقت الراهن لم نسمع أو نقرأ فى كافة وسائل الاعلام المختلفة الدولية والمحلية عن دولة أفغاستان سوى الأخبار والتقارير والكتابات الخاصة بالحروب والإرهاب ولم نكن نرى سوى مشاهد الدمار والقتل والتخريب ومظاهر الواقع الاجتماعى والاقتصادى السيئ الذى أصاب هذا البلد من جراء الاستعمار تارة وتارة أخرى بسبب الجماعات الإرهابية التى تكونت هناك وشوهت تاريخ وصورة أفغانستان فارتسمت فى أذهاننا صورة سيئة عن هذا البلد . وهذه الأجواء جميعها كانت قد أدت إلى تراجع الناحية الثقافية نتيجة الدعوة إلى نشر ثقافات وأفكار ترفضها الحضارة والمدنية . وهذه كلها حقائق حدثت ولكن يظل هناك جانب آخر من دولة أفغانستان قد خيم عليه الظلام وأهمل وسط الأحداث التى طغت على السطح سواء عن عمد أو عن غير عمد وهو جانب مشرق مضيء حيث كانت لأفغانستان على مدار أربعة عشر قرناً واقع مغاير تماما واقع مشرف شاركت فيه بالدفع بعجلة الحضارة فخرج من أرضها العديد من رجال العلم والفكر والفقه والفلسفة والاجتماع والاقتصاد والطب وذلك على مدار التاريخ مروراً بالفتح الإسلامى فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب عام 22هـ - 642م بقيادة الأحنف بن قيس التميمى.
ولو بحثنا فى صفحات التاريخ الأفغانى فى فترة الفتح الاسلامى وما تعاقب من فترات حكم الدولة الصفارية والغزنوية والمغولية والغورية والخوارزمية والتيمورية والأوزبكية والصفوية وغيرها، سنجد فى صفحاتها تاريخا مشرفا دفع بعجلة الحضارة الإسلامية . وكان هذا الدفع ينبثق من كافة المدن والأقاليم الأفغانية ومنها بلخ وهرات ومزار شريف وكابل وقندهار وخوست وجلال آباد وغيرها الكثير من البقاع التى عملت على إثراء الفكر والمعرفة وخاصة فى حقل الدراسات الإسلامية . فمن هرات ظهر العديد من الأدباء والفلاسفة منهم أبو الفضل المنذرى والذى له مؤلفات عديدة منها ( مفاخر المقالة – الزيادات – نظم الجمان) وغيرها وقد كان أيضاً أستاذاً ومعلماً لمنصور الأزهرى ( 895م - 981م ) وهو أحد كبار علماء اللغة العربية وينتمى إلى مدينة هرات وكان قد تم أسره من قبل بعض الأعراب فى حال رجوعه من حج بيت الله الحرام وقد قضى فترة أسره كلها فى دراسة اللغة العربية حتى أصبح من كبار معلمى العربية التى ألف بها كتباً عديدة ومن أشهر أعماله قاموس ( تهذيب اللغة ) وكتاب ( غريب الألفاظ التى استعملها الفقهاء )، و( علل القراءات ) وكتاب ( الأسماء الحسنى )، ( وشرح ديوان أبو تمام ) وذلك إلى جانب تفسيره للقرآن الكريم. وخرج من هرات أيضاً النحوى والأديب المشهور أبو المظفر الهروى . ونذكر أيضاً أبو الحسن الهروى وهو أحد أشهر اللغويين والنحاة والذى اشتهر أيضاً بمهارته فى كتابة الخط العربى .
وعلى الرغم من انتشار اللغة الفارسية فى القرن السادس فى عصر الدولة الغزنوية والتى أصبحت آنذاك لغة الشعراء والأدباء والعلماء إلا أن الكثيرون ظلوا يكتبون ويؤلفون باللغة العربية ومن بينهم أبو الفضل محمد بن الحسن البيهقى الذى ولد عام 1077م فى خراسان وعاش فى قصر السلطان محمود الغزنوى وكتب ( تاريخ الغزنويين ) و( تاريخ بيهق ) المشهور كما ألف العديد من الأشعار والكتب باللغة العربية . أما شيخ الإسلام عبد الله الخزرجى الأنصارى الهروى وهو من أشهر مؤلفى التصوف الذين نشروا التصوف إلى العالم العربى، ونشر شعرا ونثرا عربياً وفارسياً . وأما علماء بلخ فقد كان لهم دورا كبيرا أيضاً فى التأليف باللغة العربية منهم سعيد بن مسعدة البلخى وهو أحد كبار النحاة وله كتاب ( تفسير معانى القرآن ) و( شرح أبيات المعانى ) و( الاشتقاق ) وغيرها .
ولم يقدم العلماء الأفغان خدمات علمية للفكر العربى فقط وإنما للعالم كله حيث قدموا للإنسانية مؤلفات لا تزال حتى اليوم مصدراً ثرياً للمعرفة العالمية المتخصصة كابن سينا وهو عالم فى الطب والفلسفة . والبيرونى صاحب الكتب التى كان لها أثرها فى المعرفة الإنسانية فى العالم العربى وشبه القارة الهندية . أضف إلى هذين العملاقين أبا حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفى الذى وُلد جده فى كابل العاصمة الأفغانية الحالية .
وحين نسلط الضوء على الأعلام العرب من ذوى الأصول الأفغانية فنذكر منهم بشارد بن برد وهو أحد كبار الشعراء المرموقين فى تاريخ الشعر العربى والذى ينتمى فى أصله إلى طخارستان . وأيضاً الحسين بن الضحاك ومروان بن سليمان الخرساني، وشقيق البلخي، والفضيل بن عياض الخراساني، وبشر الحافى وغيرهم الكثير . وكل يحتاج لتفصيل لكن لا يتسع المقام .
وكلنا يعلم جمال الدين الأفغانى المولود فى أسد آباد بأفغانستان عام 1839م الذى كان فيلسوفاً كبيرا صاحب نظرة ثاقبة بعيدة المدى . كان أحد الرجال العظام الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة، جاء إلى مصر لأول مرة عام 1870م وسكن حى خان الخليلي، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى وأقام بها اربعين عاماً استطاع خلالها أن ينفخ فيها روح النهضة الإصلاحية وتتلمذ على يده العالم المصرى الجليل الشيخ محمد عبده وغيره الكثيرون وكان ملماً باللغات العربية والفارسية والتركية وتعلم أيضا الفرنسية والانجليزية والروسية وله العديد من المؤلفات أشهرها ( تاريخ أفغانستان ) .
أما عبد الحكيم الأفغانى القندهارى الذى وُلد فى عام 1250م فى قندهار فهو فقيه حنفى سكن دمشق وتوفى بها وهو أحد علماء الفقه والحديث له شروح عديدة وله من الآثار كتاب (كشف الحقائق )، وشرح الشاطبية، وحاشية على شرح البخاري، وحواش وتعليقات على الهداية، وحاشية ابن عابدين، وشرح المنار، وحاشية على تفسير النسفي.، وغيرهم الكثير من العلماء . ولكن للأسف هذه الصورة غابت عن الأنظار بسبب الأطماع الاستعمارية وبسبب الفكر المتطرف للجماعات الارهابية التى يرفضها الأفغانيون والتى فُرضت عليهم بشكل أو بأخر وشوهت الصورة الحضارية لأفغانستان .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة