تحركت قوات فرنسية من بنى سويف يوم 16 ديسمبر «مثل هذا اليوم» عام 1798 برا على الشاطئ الأيسر للنيل، وكانت تحمل الأقوات والذخائر والمهمات للتوغل فى الوجه القبلى بهدف السيطرة عليه، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة».
جاء هذا التحرك فى سياق تنفيذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لأهدافها باحتلال كل الأراضى المصرية والسيطرة عليها تماما، وبدأت بالإسكندرية يوم 3 يوليو 1798 بعد مفاوضات مع محمد كريم، حسب تأكيد «ج. كرستوفر هيرولد» فى كتابه «بونابرت فى مصر» ترجمة: فؤاد أندراوس» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة».
لم يكن طريق الفرنسيين إلى الجنوب سهلا، ويذكر «الرافعى»: «كان توغل الجنود فى الوجه القبلى محفوفا بالمتاعب والأخطار، لأن الجيش كلما سار جنوبا ابتعد عن القاهرة التى كانت مركز القوة الفرنسية وتغلغل فى بلاد مجهولة منه وبين أقوام يكرهونه ويتربصون به ريب المنون، وينقل «الرافعى» عن الجنرال «دافو» أحد قائد الفرسان الذين كانوا ضمن القوة الزاحفة إلى الجنوب، وفيما بعد أصبح مارشالا للإمبراطورية الفرنسية قوله: «إننا نستهدف لأخطار كثيرة كلما أوغلنا فى بلاد يحمل أهلها السلاح».
كان هناك «مصرى» يذلل هذه العقبات أمام الفرنسيين فى طريقهم إلى الصعيد، ويؤكد «هيرولد» أن «المعلم يعقوب القبطى هو من قام بهذه المهمة»، مشيرا إلى أنه «حين أقلع الأسطول النهرى للفرنسيين كان يعقوب يركب إلى جوار ديزيه قائد القوات الفرنسية إلى الصعيد»، ويصفه «هيرولد بأنه» رجل فذ، ولولا لباقته وكفايته وشجاعته لما استطاع ديزيه، فى أغلب الظن، أن ينال ما نال من أمجاد النصر رغم عبقريته كلها، ويضيف: «كان المعلم يعقوب منوطا به من الناحية الرسمية جمع الضرائب فى مصر العليا، ولكنه كان فى الواقع شريكا لديزيه فى قيادة حملته، وكان المعلم يعقوب بن يوحنا ومارية غزال آنذاك فى مستهل عقده الخامس، وأصبح مستشار لحملة توجه ضد مراد «قائد المماليك فى الصعيد» الذى كان يعقوب يعرفه جيدا لأنه اشتغل من قبل ناظرا لدائرة زميل لمراد يدعى سليمان بك».
ويعدد «هيرولد» مزايا «يعقوب» بالنسبة للفرنسيين: «كان خبيرا بطبيعة البلاد وبأهلها، وله فى كل مكان صلات، وفيه دهاء وحسن سياسة لا تجد لها نظيرا حتى فى الجباة الأقباط، وكان أهل الصعيد يسمون فرقة ديزيه «جيش المعلم يعقوب»، ويؤكد «هيرولد»: «الواقع أنه ما من قرار اتخذه ديزيه خلال حملته كلها دون أن يستشير «القبطى» وهو لقب يعقوب فى الجيش»، والمعروف أن يعقوب غادر مصر مع الحملة الفرنسية حين عادت إلى بلادها عام 1801».
وإذا كان «يعقوب» كمصرى هو نموذج للخيانة فى نظر كثيرين، فإن «الرافعى» يقدم نموذجا مختلفا، مشيرا إلى أنه حين سارت الحملة من بنى سويف يوم 16 ديسمبر 1798، بعد أن تركت فيها قوة من مائتى جندى وبعض السفن المسلحة لحراسة المواصلات مع القاهرة، ووصلت ليلا إلى «البرانقة» على البر الغربى للنيل، وفى الصباح استأنفت السير فبلغت «ببا»، وسارت منها قاصدة «الفشن» وقبل أن تصل إليها استراحت لتنتظر قدوم المدفعية، وكانت طلائع الفرقة ترابط على مقربة من قرية «الفقاعى»، وفيها ظهر النموذج النقيض من نموذج «يعقوب».
يقول «الرافعى»، إنه بينما كان الجنود ينتظرون وصول بقية الجيش تقدم أحد غلمان القرية، وتغفل بعض جنود الدارجون فاستولى على بنادقهم، فرآه جندى آخر وتعقبه وهو يعدو حاملا بندقية إلى أن أدركه وضربه بالسيف على ذراعه، وساقه جريحا إلى الجنرال ديزيه للاقتصاص منه، فسأله الجنرال عما دعاه إلى ارتكاب هذا العمل، فأجاب الغلام رابط الجأش ناظرا إلى السماء: إن الله القادر على كل شىء قد أمره بذلك، فسأله الجنرال عمن حرضه على فعلته؟ فقال: لم يحرضنى أحد وإنما ألهمنى الله أن أفعل ما فعلت، ثم رفع رأسه ونظر إليه، وقال له فى هدوء وثبات: دونك رأسى فاقطعوه، فدهش الجنرال من شجاعته، واكتفى بأن يجلد بالسوط ثلاثين جلدة، فجلد الغلام لا يتأوه ولا يتململ حتى استوفى الثلاثين سوطا، ولم تكن سنه تتجاوز الثانية عشرة، وقص الجنرال بليار حكاية هذا الغلام فى يومياته قائلا: «إن هذا الغلام إذا عنى بتربيته كان ذا شخصية نادرة المثال».
وصل الجيش إلى الفشن يوم 17 ديسمبر، ثم ابتعد عن النيل وقصد شاطئ بحر يوسف يتعقب المماليك وحلفاءهم الأهالى، لكن مراد بك استطاع أن يتراجع قبل أن يدركه الجيش الفرنسى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة