قال مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، فى تقرير له، إذا أردنا فحص «العقلية الداعشية»، سنجد أنهم وأقرانهم من الجماعات المتطرفة يحسبون أنفسهم على المدرسة «النصية»، بل ويدعون أنهم حُماتها ورجالاتها الذين نفروا فى سبيل الله إحياءً لهذا المنهج وذودًا عنه، وأمام هذه الإدعاءات الباطلة يجب علينا أن نستبصر الحق، ونكشف بما لا يدع مجالًا للشك زيف هذه الادعاءات وبطلانها.
وتابع التقرير: أن أول ما يجب أن نتناوله - إذا أردنا أن نستكشف أبعاد المنهج «النصي» الذى تدعيه داعش وأقرانها - هو أن نرصد الأصول العامة أو ما يسميه الأصوليون بالأدلة الكلية التى يعتمدها الفكر الداعشى، ثم ننتقل ثانيًا إلى طرقِ الاستدلال لديهم، وهذا التناول يطرح أمامنا تساؤلٍ هامٍ: ما هى الطرائق الاستدلالية لاستنباط الأحكام التفصيلية عندهم؟، فمن المعروف أن أصحاب المنهج النصى يستمسكون بحرفية ما ورد فى نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فلا اجتهاد فى حكم منصوص عليه، وهذا جعلهم يعطلون عددًا من الأدلة الكلية المعمول بها عند جمهور الفقهاء.
وإذا كانت المدرسة النصية - وفق بعض أهل العلم - قد ضيقت الأفق الاستدلالى فهذا يرجع إلى الإفراط فى القول بحرفية ما تحمله العبارات مع عدم الاعتناء بفحوى الخطاب أو السياقات أو القياسات.
وتزعم «داعش» أيضًا تشددها فى شروط الأخذ بالأحاديث، إلا أن أفعالهم على أرض الواقع تثبت عكس ذلك؛ فمن المسلم به عندهم أن الأحاديث والأخبار الضعيفة «لاتصلح للاستدلال الفقهى بحالٍ من الأحوال» - هكذا يزعمون - إلا أنهم كذبوا أنفسهم فى قضية «حرق الطيار الأردنى» حين استدلوا بالأثر الوارد عن خالد بن الوليد - رضى الله عنه - بأنه أحرق مرتكب «الشذوذ» ثم هدَم عليه، وفى هذا يقول ابن حجر:«أما الإحراق فروى ابن أبى الدنيا من طريق البيهقى ومن طريق ابن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبى بكر الصديق أنه وجد رجلًا فى بعض نواحى العرب يُنكح كما تُنكح المرأة فجمع أبو بكر الصحابة فسألهم فكان أشدهم فى ذلك قولًا على بن أبى طالب فقال: نرى أن نحرقه بالنار فاجتمع رأى الصحابة على ذلك.قلت وهو ضعيف جدًا ولو صح لكان قاطعًا للحجة».
ثانيًا: المدرسة النصية، مثلها مثل جل المدارس الإسلامية، يعتبرون الإجماع واحدًا من الأدلة الكلية، ويحترمونه تمامًا، وهذا الأمر يختلف عند «داعش»، فهم يدعون ذلك ويخالفونه فى أن واحد؛ ففى ذات الحكم الذى تبنوه فى قضية إحراق «الطيار الأردني» - المشار لها سابقًا - خالفوا ما أجمع عليه متأخرو الأمة بتحريم حرق العدو بالنار، وقد قال الإمام ابن قدامة المقدسى فى كتابه المغنى: «أما العدو إذا قُدر عليه، فلا يجوز تحريقه بالنار، بغير خلاف نعلمه، وكان أبوبكر الصديق رضى الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار، وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره، فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافاً»، وبهذا تكون «داعش» خالفت إجماع الأمة الصريح فى هذه المسألة.
ثالثًا: المدرسة النصية - رغم اختلافنا معهم فى العديد من القضايا الكلية والمسائل التفصيلية - إلا أنهم كانوا أوفياء للنص، محترمين لأمانة النقل دون اقتطاع أو تصحيف أو تحريف.
وفى هذه الجزئية نجد أن «داعش» تعتمد - على سبيل المثال - فى تبرير تنفيذ عملياتها الإرهابية وما يقترفه أعضاء منظومة «الذئاب المنفردة» - الأعضاء الذين يقومون بأعمال تفجيرية فردية فى جميع أنحاء العالم - على الآية القرآنية: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، غير عابئين بالأقوال الصحيحة التى تؤكد أن الآية كانت مناسبتها فى إحدى المعارك، والدليل أن الضمير فى «اقتلوهم» عائد على «المحاربين» الذين يحملون السلاح على المسلمين، أما باقى مواطنى الدول غير المسلمة - حتى ولو كانت هذه الدول فى حالة حرب مع المسلمين - فلا يجوز المساس بهم، وإلا لو كان الضمير فى «اقتلوهم» يشمل جميع غير المسلمين فكيف نفسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ما رواه نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: «أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى فى بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان».
وهناك أدلة كثيرة تثبت كذب مزاعم «داعش» فى هذه الجزئية، ومنها ما روى عن رباح بن الربيع بن صيفى قال: «كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا، فقال: انظر على ما اجتمع هؤلاء؟، فجاء، فقال: امرأة قتيل، فقال: ما كانت هذه لتقاتل، وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلا، فقال: قل لخالد: لا يقتلن امرأة، ولاعسيفا - أى أجيرا».
وإذا كان الضمير فى «اقتلوهم» شاملًا لجميع غير المسلمين فيكف نفسر حرمة المساس بالنساء والأطفال والعمال، أى جميع المدنين الذين لا علاقة لهم بالحرب؟، أليس كل هؤلاء غير مسلمين؟، فهل نقتلهم وفق رؤية «داعش» أو نعصم دمائهم وفق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟.
رابعًا: «داعش» تتعمد استخراج الأحكام من غير أدلتها وهذا من أعجب العجب، فقد استدلوا بالفتوى المنسوبة إلى على ابن أبى طالب - رضى الله عنه - والتى ثبت ضعفها كما أوضحنا فيما سبق، وحتى وإن صح جدلًا ثبوت ورودها عن الإمام على فهى كما يقول الفقهاء «لا توافق محلًا» أى أن هذا الأثر يستدل به على عقوبة «الشذوذ» لا على عقوبة «الأسرى».
هذا باختصار كان إطلالة موجزة على بعض ملامح المنهج الاستدلالى لدى «داعش» وأقرانها، والحديث فى ذلك الباب يتسغرق الكثير من التقارير، لكن نختتم هذا التقرير بقول الله تعالى الذى اجتمع على نصه الجميع: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ َفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة