تظنُ كلُ فئةٍ من خلالِ نظرةٍ سطحيةٍ جوفاء أن راحةَ البال حِكراً على طبقةٍ أو فئةٍ دون الأُخرى من غيرِ معرفةٍ لتفاصيلِ حياةِ أولئكَ الذين حَسِبُوهم مَلكوا راحةَ البال وقرارَ العينِ، ليكونَ مناطُ الحكمِ لديهم هو الظاهرُ الذى طالما يحمِلُ رَسمَاً لحالٍ لا يَمُتُّ للحقيقةِ بصلة .
فحينما تسمعُ فقيراً يُغلِظُ الأَيمانَ ، مؤكداً أن الأغنياءَ يحتكرون راحةَ البالِ وذلك لما لهم من المالِ والسلطةِ وغيرهما من وسائلِ الترفيهِ والراحة، بل تتفاجأُ حينما تسمعُ غنياً يظنُ أن الفقراءَ دونَ غيرِهم مَن يرتاحُ بالهُم وتطمئنُ نفوسُهم، ما لشيءٍ إلا لأنهم لا يعبئون بالمشاكلِ التى تقتضيها حياةُ المنافسة التى تجعل الغنىَّ دائمَ التفكيرِ فيما هو قادم وفيما يخافُ أن يذهبَ من بين يديه فجأةً إن لم ينتبه، الغريب والعجيب حقاً أنك ترى صحيحاً يحسدُ مريضاً على ما قد يكونُ لديه من الصبر فكما يقولون ( يحسدون الأعمى على طولِ عكازه )، والأمثلةُ على ذلك كثيرة .
فى الواقع أن جُلَّ الناسِ لا يرتضون بما هم فيه، وإنَّ عدمَ الرضا يجعلُ المرء يرى نفسَه وكأنه المظلوم الوحيد فى هذا العالم، والحقيقةُ أنهم جميعاً تناسَوا أن راحةَ البال وإن كانت ليست حِكراً على أحدٍ إلا أنها من أهم ما يُميزُ حياةَ أُولى العقولِ والألباب الذينَ يعرفونَ أن الأمرَ كلَّهَ بيدِ الله عز وجل .
إن راحةَ البال هى الدليلُ الأوحدُ للسعادة، فراحةُ البالِ هى ذلك الشعورُ الذى يخلُقه الرضا الذى لا يتحققُ إلا حينما يكونُ المرأُ راضٍ بما لديه غير آبهٍ بما فاته لأنه قد ترسخ بداخلِه مبدأ اليقين بالله، هذا المبدأ الذى يجعلُ كلَ الأمورِ لديك سواء، فأنت على يقينٍ أن ما لديكَ هو ما ارتضاه الله لك ولأنك تثقُ بربِك فأنت لا تعترضُ ثقةً بربِك وإيماناً بحكمتِه البالغة وقدرتِه المطلقة، ولا يتحققُ اليقينُ بالله بغيرِ السعى الدؤوب والاجتهادِ الذى لا يعرفُ الفتور ولكنه فى نفسِ الوقتِ يجعلُك راضٍ بما تجنى لأنك وبكل بساطة عليك أن تسعى وليس عليكَ إدراك النجاح، ومن هنا يكونُ الرضا وتكملُ السعادةَ بأسمى معانيها، فأنت فى هذه الحالة ملكٌ متوجٌ على عرشٍ اسمُه راحةَ البال .
إن السعادة وراحة البال لا يتحققان مطلقاً إلا إذا علِمَ المرء قيمةَ ما لديه من النِعم التى لا يعرفُ قيمتَها كثيرٌ من الناس إلا بعد فقدها، ما لشيءٍ إلا لأن هؤلاء التائهون اهتموا بما ليس لديهم فأشغلهم عما لديهم حتى فقدوا كلَّ شيء .
ومن ثمَّ يكونُ لزاماً على العاقلِ أن ينظرَ دائماً لمن هو أقلَّ منه، فإن كان مريضاُ فإنه يعلمُ أن هناك من هو أشدُ منه مرضاً وإن كان فقيراً فهو لا يخفى عليه بأى حالٍ من الأحوالِ أن هناك من هو أكثرُ منه فقراً، بل إنه لا يسمحُ لنفسِه أن ينظرَ لحالِ من هو أغنى منه أو أكثرَ منه صحةً من بابِ الحقد والحسد لأنه على يقينٍ من أنه لا يعرفُ تفاصيلَ حياةِ الآخرين، فكم من ضاحكٍ يُخفى وراء ابتسامتِه آلاماً لو علِمها من ظَنَهُ على خيرٍ لتعوَّذَ من أن يصبحَ فى نفسِ حالِه .
بل لابد وأن تكونَ على قناعةٍ تامةٍ أنه ربما يكونُ العطاءُ ابتلاءً كما أن المنعَ قد يحملُ أسمى معانى العطاء ولكن لمن عَلِمَ المعنى الحقيقى للعطاء والمَنع، ولْتَعلَم أن الله عز وجلَّ ما أعطى إلا ليختبرَ وما منعَ إلا ليُعطي، فإن نجحَ المُـعطَى فى الحفاظ على ما أولاه الله من نعم ولم يغترْ ولم يُنكر فضلَ الله عليه فيكونُ قد نجح فيما استخلفه الله عليه، وإن صبر من حُرِمَ على المنعِ يقيناً فى اللهِ وثقةً فى حكمتِه سبحانه فلينتظرْ من الله عطاءً تقرُّ به عينُه وينشرحُ به صدرُه نظيرَ صبرِه ويقينِه بربِه .
ولنا فى السابقين كلَّ العِبر، فذاك قارون قد أعطاه اللهُ ما جعلَ أولئكَ الذين يلهثونَ وراء الدنيا يتمنَونَ لو أن لهم مثلَ ما له، ذلكَ لأنهم يجهلونَ فلسفةَ العطاءِ والمنع وليسَ لهم من الأمورِ غيرَ ظاهرِها، وتتحققُ العبرةُ والموعظةُ حينما تراهم.
يغيِّرونَ آرائهم ويستغفرونَ ربَهم على الفورِ حينما تظهرُ قدرةُ اللهِ وحكمتُه حينما خسفَ بقارونَ ودارِه الأرضَ حينما كفَرَ وأنكرَ فضلَ اللهَ عليه وتجرأَ على نبى الله موسى حيثُ قالَ اللهُ فى كتابه ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن مَنَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ( صدقَ اللهُ العظيم، ليتيقنَ الكلُ أن العطاءَ يحمِلُ فى طياتِه الابتلاءَ الذى لا يقلُّ فى قوتِه عن المنعَ بل يزيدُ أحياناً لأضعاف أضعاف ذلكَ الابتلاء الذين يكونُ مع المَنع .
فعليك أن ترضى بما قسمَه الله لك، ولتعلم أنك فى أحسنِ حالٍ وأن ما أنت فيه هو الأصلحُ والأنسب وأن غيرَك ممن لا تعرفُهم يتمنونَ لو أنهم ينالونَ قطراً من محيطِ ما أنت فيه من النعمةِ والعطاء والسعة، عليك أن تتأدب مع الله فإن فضلَّ اللهِ عليك لا يُضاهى ولا يُقَارن، عليك أن تعلم أن راحةَ البال لمن تيقن أنه لن ينالَ من الدنيا غيرَ ما أراده الله له، لأنك حينما تكونُ على يقينٍ من ذلك لن يشغلُك غداً لأنه لا يحملُ إلا ما أراده الله لك، ولن يشغلُكَ الناس لأنهم لا يملكونَ لك نفعاً ولا ضرَّاً إلا بإذن الله، فما دمتَ فى معيِّةِ الله فلا تجعل تفكيرَك فى غيرِ ربِّك ولا تجعل غيرَ اللهِ يشغلُك، هنا ستصلُ إلى راحةِ البالِ التى لا ينالُها إلا العاقلون أولئكَ الذين علموا أن رزقهم بيد الله فانشغلوا بربهم فأغناهم اللهُ من فضلِه، حينما تكتملُ بداخلِك هذه المفاهيم ستتضاءلُ الدنيا بداخلِك بدرجةٍ تجعلُك ترى نفسك أغنى الناس ولو كنتَ أفقرَهم، وأسعدَ الناسِ ولو كنتَ أشقاهم وأصحَّ الناس ولو كنت أكثرُهم مرضا، ما لشيءٍ إلا لأنك جعلتَ اللهَ همَّكَ فكفاكَ اللهُ ما أَهمَّكَ .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة