كانت الساعة الواحدة و45 دقيقة ليلة 21 أكتوبر «مثل هذا اليوم» عام 1973، حينما دق جرس التليفون فى منزل السفير السوفيتى بالقاهرة، فلاديمير فينوجرادوف، وحسب مذكراته «يوميات دبلوماسى فى بلاد العرب»، «كتاب الأهالى، القاهرة»: «كان الرئيس السادات هو المتحدث، طلب منى على الفور التوجه إليه فى قصر الطاهرة، وعندما وصلت إلى القصر الغارق فى الظلام، اصطحبنى بعض الحراس إلى إحدى شرفات الطابق الأول، ولم تكن هناك إضاءة على الإطلاق، بينما تساقط ضوء القمر على الأجزاء التى لا تحجبها الأشجار، وجدت السادات جالسًا وراء منضدة صغيرة بالقرب من السلالم المرمرية، وبجواره الوزير عبدالفتاح عبدالله ممسكًا بدفتر، وجاهز لتسجيل المحادثات، كما كان أيضًا بجواره مساعده لشؤون الأمن القومى حافظ إسماعيل، الذى كان يدخن بعصبية».
يوضح «فينوجرادوف»: «لم يكن السادات يهتم بالشكل، إذ جلس ببدلته العسكرية، وقد فتح جاكتتها، وكانت ملامح وجهه تنم عن هدوء تام وثقة، وبدأ حديثه معى بالإنجليزية قائلًا: فى منتصف هذه الليلة دعانى العسكريون إلى القيادة، وشرحوا لى الموقف، وعلى الفور دعوتك إلى هذا اللقاء، توقف السادات للحظة ثم أكمل: أستطيع أن أحارب الإسرائيليين، وألحق الهزيمة بهم، لكن ليس بمقدورى أن ألحق الهزيمة بالولايات المتحدة الأمريكية».
يضيف السفير: «كما كان يحدث باستمرار عندما يتكلم السادات بالإنجليزية، بدأ الحديث ببعض الكلمات والتعبيرات السهلة والمفهومة، وبعدها بدأ يتحدث بشكل عاطفى، قال: هذه المرة لا يمكننى التغلب على هذا التيار الجارف من الدبابات والطائرات التى تمد بها الولايات المتحدة إسرائيل، فكم دمرنا منها، ومع ذلك فهى سيل لا ينقطع، ففى الأمس فقط دمرنا ما يزيد على 200 دبابة، لكن وفى الحال ظهر بدلًا منها وأكثر».
سحب «السادات» أنفاسًا من غليونه، حسب تأكيد «فينوجرادوف»، ثم دخل إلى مطلبه: «أرجوكم أن تبلغوا موسكو بأقصى سرعة طلبى بضرورة العمل على وقف إطلاق النار فورًا».
يعلق السفير: «يا لها من نهاية مباغتة»، ويضيف: «تحدثت قائلًا: هل طلبتم العمل بأقصى سرعة ممكنة لوقف إطلاق النار مع بقاء القوات المتحاربة فى مواقعها الحالية؟.. أومأ السادات بالإيجاب، لكننى أردت أن أدقق المسألة، فتوجهت إليه بالسؤال: لكن كيف يمكن معالجة مسألة القوات الإسرائيلية التى تسللت عبر الثغرة إلى غرب القناة، هل ستبقى فى مواقعها هناك؟.. أجاب السادات: رغم أنه يمكن اعتبارها «متسللة»، فإنه لم يعد هناك خيار آخر».
انتهى اللقاء، وتوجه السفير مباشرة إلى سفارته لإبلاغ موسكو، ووفقًا لكلامه: «بعد ساعتين عدت لقصر الطاهرة لمزيد من الاستفسار، فإذ بى أجد السادات قد راح فى نوم عميق، وبعد إلحاح شديد منى استجابوا على مضض لطلبى وأيقظوه من النوم». يضيف السفير: «استقبلنى السادات هذه المرة فى غرفة مجاورة لغرفة نومه، وقد جاء بالروب، ويبدو أنه تناوله على عجل فوق بيجامة نومه، وألقى بجسده على المصعد، وكانت ملامحه متوردة وكانت عيناه صافيتين، لم تفارقه الابتسامة، كان شكله يوحى بأن الحرب قد انتهت بالنسبة له».
يؤكد «فينوجرادوف» أنه بعد مفاوضات أمريكية سوفيتية شاقة، حاول الأمريكان إطالتها لإتاحة مزيد من الوقت أمام القوات الإسرائيلية للتوغل فى أعماق الأراضى المصرية، لكى تصبح مصر فى موقف أكثر ضعفًا وتعقيدًا، اتخذ مجلس الأمن الدولى يوم 22 أكتوبر قراره رقم 338 القاضى بوقف إطلاق النار خلال مدة لا تتجاوز 12 ساعة، وكان «كيسنجر» اقترح أن تكون 48 ساعة، وأمام الرفض الشديد من الجانب السوفيتى عدلها إلى 24 ساعة، وأمام إصرارنا على موقفنا قبل الجانب الأمريكى أخيًرا اقتراحنا بـ 12 ساعة فقط.
فى قصر الطاهرة مساء يوم 21 أكتوبر كان الجو مشدودًا على آخره، بوصف محمد حسنين هيكل فى كتابه «أكتوبر 73.. السلاح والسياسة»، مضيفًا: «وصل نص القرار 338 من موسكو، ويحمله حافظ إسماعيل، مستشار الرئيس للأمن القومى، فى حقيبته، وفى جلسة ضمت السادات وهيكل وسيد مرعى وعبدالفتاح عبدالله وأشرف مروان، سكرتير الرئيس للمعلومات، أعطى السادات أوامر لإسماعيل بقراءة نص القرار، لكن هيكل سأل قبل القراءة: هل وافقت سوريا عليه؟، فرد السادات بسرعة: لا أعرف، أظن أنهم سيوافقون، وعاد هيكل يسأل: لكن هل يعرف السوريون بالموعد المقرر؟.. رد الرئيس والحدة تظهر فى نبرات صوته: يقول لهم الروس، فواصل هيكل: عفوًا للإلحاح، لكنّ السوريين عندما فتحوا النار يوم 6 أكتوبر نسقوا معنا ولم ينسقوا مع السوفيت، وبدا الضيق على الرئيس وتمتم قائلًا: هذه مسألة شكلية وهى ليست بيت القصيد الآن، ويمكن أن نتصل بحافظ»، يقصد حافظ الأسد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة