التنوير والظلامية، المستقبل والماضى، المعاصرة والأصالة، هذه كلمات تتردد كثيرا إذا ما أثير أمر العلاقة بين الثقافة والمؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف، ورغم كون معظم الجدل الذى يدور فى هذه المسألة يكون رأيا شخصيا، إلا أنها أخذ منحى خطيرا من الصدام الذى تكون المؤسسات الطرف الأساسى «المتورط» فيه.
وعادة ما تكون الحجاب والسينما والكتابة والفكر والتاريخ وصحيح البخارى والتفاسير والأحاديث النبوية ومفهوم الدولة المدنية، هى القضايا الكبرى التى يثار حولها الإشكال والجدل بين الثقافة والمثقفين من جانب والأزهر ورجال الدين من الجانب الآخر، وهذه مشكلة قديمة تعود لما قبل وجود وزارة للثقافة.
المؤسسات والرأى الشخصى
المتابع للعلاقة بين الأزهر ووزارة الثقافة سيجد أن ليس هناك صراعا بالمعنى الحقيقى بين المؤسستين، لكن الأزمة كانت دائما ما تنتجها الأفكار المطروحة التى عادة ما تكون آراء شخصية ناتجة عن قناعات ذاتية، لكن العمل الوظيفى هو ما يضفى عليها طابعا مؤسسيا، ففى تاريخ وزراء الثقافة لم يحدث أى صراع مع الأزهر ما عدا الدكتور جابر عصفور، الذى يؤكد دائما أن لديه مشكلة مع «طريقة التفكير التى تدار بها مؤسسة الأزهر»، والكاتب الصحفى حلمى النمنم الذى عادة ما يخلط الناس بين موقفه من السلفيين والمتطرفين وبين موقفه من الأزهر، أما باقى الوزراء فلم تكن لديهم صدامات مع الأزهر، خاصة أن اثنين من الوزراء اللذين شغلا المنصب، فى السنوات الأخيرة، يعملان فى جامعة الأزهر وهما محمد صابر عرب وعبدالواحد النبوى، كذلك لم يدخل كل من عماد أبو غازى وشاكر عبد الحميد ومحمد عبد المنعم الصاوى فى أى صراع كان الأزهر طرفا فيه، أما الفنان فاروق حسنى فقد كان يصرح دائما بأن آراءه الشخصية لا علاقة لها بوزارة الثقافة.
وزارة الثقافة وهاجس التنوير
كان «الحجاب» هو الموضوع الذى أثاره الفنان فاروق حسنى سنة 2006، حيث رأى «أن ارتداء الحجاب هو عودة إلى الوراء وجهل»، وهو ما أثار جدلًا واسعا بينه وبين الأزهر، وبعض رجال الإخوان الذين كانوا فى البرلمان حينها، وقاموا بشن حملة كبيرة ضده، مطالبين بإقالته وتحويله، للتحقيق، هذا مع كونه خرج ليؤكد أن ما قاله مجرد رأى شخصى ولا يعبر بأى شكل من الأشكال عن رأى الوزارة، ووقتها رد عليه وكيل الأزهر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، الشيخ محمود عاشور، وقال «إن ارتداء الحجاب يتفق مع نصوص ثابتة فى القرآن والسنة، وأضاف أن الوزير لا ينبغى له أن يتحدث فى علوم الدين، وقال إن الطريقة التى تحدث بها الوزير عن النساء فيها «إهانة للمرأة وحط من قدرها وكرامتها»، بينما صرح شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى وقتها بأنه مستعد للذهاب إلى مجلس الشعب ليبين الآيات والأحكام الدينية التى تتعلق بالحجاب.
ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تصبح وزارة الثقافة والأزهر وجهى صدام زمن فاروق حسنى ففى سنة 2000 نشأت أزمة بسبب طباعة وزارة الثقافة لرواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السورى حيدر حيدر، وأصدر مجمع البحوث الإسلامية بيانا موقعًا باسم شيخ الأزهر ليدين الرواية ويعتبرها كافرة، لأن بها فقرات تستهزئ بالذات الإلهية والرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، كما أدان تولى وزارة الثقافة نشر هذه الرواية، كذلك ظهر الأزهر معترضا على الأزمة التى أطلق عليها أزمة «الروايات الثلاث» سنة 2001.
جابر عصفور.. المثير للجدل
جاء جابر عصفور إلى الوزارة وهو محمل بتاريخ من الكتابات عن التنوير الذى يرى أن طريقة تفكير رجال الدين فى كل المؤسسات الدينية فى مصر تمثل جزءا أساسيا فى محاربته، لذا منذ توليه الوزارة وظهرت تصريحات كثيرة تصفه بالعلمانى وكأنها «سبة» يريدون أن يلصقونها به.
وبدأت أزمة «عصفور، حينما أعلن أنه لو كان وزيرًا وقت منع الأزهر لفيلم «نوح» ما كان الفيلم ليمنع، وأن القرآن ليس به ما يدل على منع تصوير الأنبياء، ورد الأزهر عليه فى بيان رسمى قائلًا: «لن نرد على أية تصريحات تصدر إلا بعد صدور قرارات رسمية، فالأزهر يتعامل مع قرارات، وموقفنا من عرض فيلم نوح واضح وصريح، وهو الرفض الكامل لعرض هذا الفيلم المسىء».
ولم تهدأ حدة الأزمة إلى هذا الحد، تاريخ الأزهر و«التنوير» الذى اختص به الدكتور جابر بعض الشيوخ القدامى، حيث كتب فى 24 يونيو 2014 مقالاً فى إحدى الصحف بعنوان «صراعات الخطابات الدينية فى مصر»، قال فيه إن عددا من أئمة الأزهر الشريف وشيوخه دعوا إلى فصل الدين عن الدولة فى مصر، فقام وكيل الأزهر بنشر مقال فى فى الصحيفة نفسها بعنوان «خطابنا الدينى» اعتبر فيه أن جابر عصفور «أحد المبشرين بالتنوير الغربى القائم على الفلسفة الوضعية التى أثمرت العلمانية التى فصلت الدين عن الدولة وعن الحياة».
لم تكن السينما وأئمة التنوير فقط هما ما أقلقا جابر عصفور بل شغل الحجاب أيضا مساحة كبرى فرأى أن «الحجاب» ليس فريضة، وأنه عادة، وليس بعبادة، موضحًا أنه على استعداد أن يقدم حججا تؤكد صحة هذا الرأى، متابعًا: وهناك مشايخ كبار فى الأزهر يرون ذلك وأولهم رفاعة الطهطاوى، والمستشار سعيد العشماوى، وقال جابر عصفور إن الدين الإسلامى لا يوجد به ما يسمى «سنة أو شيعة»، ولكن كل هذه صراعات سياسية، متهما شيخ الأزهر بأنه كان يوجه إشارات سلبية إزاء الشيعة، معتبرا ذلك خطأ يمس وحدة المسلمين.
كما الدكتور جابر عصفور دائم التعليق على مناهج الأزهر فيرى أن «الغالب على دراسات الأزهر وعلى العقليات الأزهرية القديمة والمستمرة حتى الآن هى العقلية السلفية، وليس بمعنى الانتساب للجماعات السلفية وإنما تقديس كل ما هو قديم، وتقديس كل ما هو مطبوع فى كتب صفراء»، وطالب «عصفور»، بحذف الآيات القرآنية من مناهج الأزهر التى تدعو للجهاد، حتى لا تكون مبررا للتنظيمات الإرهابية أمثال داعش يستقطبون من خلالها المجاهدين ويستهدفون المدنيين والأبرياء بحجة الجهاد فى سبيل الله، مضيفا أنه على الأزهر ألا يعتبر نفسه سلطة دينية يسلط سيفه على رقاب المواطنين، خصوصا الذين يخالفونه ويعارضونه.
المثقفون والأزهر.. تاريخ من الاختلاف
كذلك بعيدا عن رجال المؤسسات شهدت العقود الماضية معارك بين المثقفين والأزهر، وتجسد ذلك فى معركة الأديب الراحل طه حسين بعد نشر كتابه المثير للجدل «فى الشعر الجاهلى» عام 1926، الذى أثار حفيظة عدد من علماء الأزهر، ليقوموا بتحرير دعوى قضائية ضده، حيث كتب الشيخ عبد ربه مفتاح، أحد علماء الأزهر، مخاطبًا طه حسين فى مقال له نشرته مجلة «الكواكب» قائلاً: «وكيف تزعم أيها الدكتور أن بعض العلماء أثار هذا الأمر، أمر كفرك وها أنا ذا أصرّح لك والتبعة فى ذلك علىّ وحدى، بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر.. وبالكفر الصريح الذى لا تأويل فيه»، ووقف المثقفون بجانب طه حسين ودافعوا عنه وكان على رأسهم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، واستمر الأمر حتى برأت المحكمة طه حسين، وتم تعديل الكتاب وحذفت الأجزاء التى أُخذت عليه.
نجيب محفوظ
كما كان للأزهر معركة أيضا مع الأديب العالمى نجيب محفوظ، عندما نشر حلقات من روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» خلال فترة الستينيات، حيث طالب عدد من شيوخ الأزهر بوقف نشر تلك الرواية، مؤكدين أنها تسىء للذات الإلهية، وعليه اتهم محفوظ بالإلحاد والزندقة، وطالبوا بحظر نشر الرواية، وحتى بعد فوزه بجائزة نوبل 1988 ظل الهجوم عليه ضاريا.
فرج فودة
أما فرج فودة فكانت المناظرة التى تمت سنة 1992 بينه وبين عدد من شيوخ الأزهر سببا أساسيا فى احتدام الصراع بين المثقفين والأزهر، ثم كان لحادث الاغتيال الذى تلا ذلك بشهور قليلة أن فجر الغضب داخل المثقفين، خاصة بعد شهادة الشيخ محمد الغزالى فى المحكمة.
كانت أفكار «فرج فودة» القائمة على الفصل بين الدين والدولة والبحث عن الدولة المدنية ورفض الدولة الدينية، تترك أثرا سلببا لدى المؤسسة الدينية الرسمية فى مصر، حيث رأت مؤسسة الأزهر حينها، أن تلك الأفكار، وسيلة لزرع الفتنة داخل المجتمع، وعليه أصدرت ندوة جبهة علماء الأزهر وقتها بيانًا أعلنت فيه تكفير فرج فوده، وهو ما سمح للجماعات المتشددة باغتياله فيما بعد، بحجة أن ذلك تطبيق لشرع الله، وتنفيذ لتعاليم الدين.
نصر حامد أبوزيد
أما الدكتور نصر حامد أبوزيد، فعلى الرغم من كون مشكلته لم تبدأ مع الأزهر، بل حدثت إثر رفض ترقية الدكتور نصر لدرجة الأستاذية فى جامعة القاهرة والاعتراض على أبحاثه التى تقدم بها ومنها «نقد الخطاب الدينى»، وانعقدت حينها لجنة، رأسها الدكتور عبدالصبور شاهين، وكتب شاهين تقريرا أوضح فيه عداوة أبوزيد لنصوص القرآن والسنة، والدفاع عن العلمانية، الأمر الذى أدى إلى رفع دعوى ضده، وصدر حكما من المحكمة باعتبار أبوزيد مرتدا عن الدين الإسلامى، بعدها تدخل عدد من الإسلاميين فى المعركة حتى أن نصر حامد أبوزيد وأفكاره كانا يهاجمان على المنابر فى خطبة الجمعة.
سيد القمنى
أما الدكتور سيد القمنى وكتبه فدائما موضوعة مطروحة على طاولة الأزهر، فمنذ كتابه «رب هذا الزمان» (1997)، الذى صادره مجمع بحوث الأزهر حينها وأخضع كاتبه لاستجواب فى نيابة أمن الدولة العليا، حول معانى «الارتداد» المتضمَّنة فيه، والعلاقة بينهما متوترة هو يرى المؤسسة فى تصريحاته بأنه «منظمة إرهابية»، ويرى ضرورة عزل شيخ الأزهر، لدرجة أنه صرح بأنه يجمع توقيعات من المثقفين لهذا الأمر، وهم يرون أفكاره عن فصل الدين عن الدولة «علمانية» يقصد من وراءها هدم المجتمع.
البحث عن الظلامى والتنويرى فى «مصر»
ويظل السؤال الأساسى مطروحا خاصة بعد الأزمة الأخيرة التى صاحبت التصريحات المنسوبة للوزير حلمى النمنم حول مناهج الأزهر وصناعتها للإرهاب والتطرف، من المقصر فى معالجة التطرف والأفكار الظلامية فى مصر؟.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة