للوهلة الأولى يبدو اندلاع الاقتتال الدامى فى جنوب السودان، وحصده مئات الضحايا فى أيام قليلة، بهدف أسباب سياسية، أو صراع على السلطة بين أنصار الرئيس الجنوبى سلفا كير ميارديت، ونائبه رياك مشار، فإن الحقيقة التى يدركها المتابعون لتطورات الأحداث فى هذه المنطقة الأفريقية أن الدافع الرئيسى، سواء لاندلاع تلك الحرب، أو لإمكانية اتساع دائرتها إلى أمد لا يعرف أحد نهاية له، هو الصراع القبلى الذى يضرب بجذوره فى أعماق دولة هى الأحدث نشأة بين دول العالم بعد انفصالها عن دولة السودان قبل خمسة أعوام، ويحمل معه - بحسب مراقبين - عوامل اضطراب مستمر فى بنيانها الاجتماعى، وإدارتها السياسية، حيث يرصد مراقبون تعدد التقسيم القبائلى فى دولة الجنوب بين ما يقرب من 64 قبيلة.
ينتمى سلفا كير إلى قبيلة «الدينكا»، فيما ينتمى مشار إلى قبيلة «النوير»، والقبيلتان هما رأس التكوين القبلى فى جنوب السودان، وبينهما قبائل عديدة كانت الأكثر تضررًا من جولة الصراع الحالية، حيث قُتل الكثيرون من أبنائها خلال المعارك، وبحسب مراقبين، فإن تلك القبائل، وما تعرضت له من خسائر بشرية ومادية تمثل بؤرة ملتهبة وقابلة للاشتعال، وتوسيع دائرة الاقتتال فى أى لحظة انتقامًا لما نالها، فعلى الرغم من أن أحد أبرز وجوه الطرف الثالث فى الصراع، وهو الجنرال بيتر قديت، ينتمى إلى نفس القبيلة التى ينتمى إليها مشار وهى «النوير»، فإن خروجه هو الآخر على نائب سلفا كير جاء لأسباب قبلية أيضًا، حيث يتهم «قديت» «مشار» بالتفريط فى حقوق قبيلته.
قبل أقل من عام، وبالتحديد فى أغسطس 2015، وقّع طرفا الصراع الرئيسيان فى جوبا «سلفا كير ومشار» اتفاق سلام بتدخل من عدد من دول الجوار، وذلك بعد جولة سابقة من الاقتتال، وهو الاتفاق الذى عاد بموجبه «مشار» لموقعه كنائب لرئيس الجمهورية بعد استبعاده منه فى عام 2013 بموجب قرار من سلفا كير، وقبل أن يكمل الاتفاق عامه الأول عادت الدوافع القبلية لتطل برأسها من جديد فى المشهد الجنوبى، بعد أن بدأ القادة العسكريون فى «جوبا» محاولات لنزع السلاح من القادة المنتمين لقبيلة «النوير».
وبحسب مراقبين أيضًا، فإن غياب شخصية قيادية تجمع حولها الحد الأدنى من القبول الشعبى الذى توافر لزعيم الحركة الشعبية الراحل جون جارانج، يصعب من مهمة تحقيق الاستقرار فى «جوبا»، فضلًا عن أن الامتدادات لقبائل جنوبية فى دول مجاورة، مثل إثيوبيا وكينيا والكونغو وأوغندا، يفتح الباب أمام تدخلات خارجية فى الفترة المقبلة، خاصة من جانب أوغندا التى تدعم سلفا كير فى مواجهة رياك مشار، وتتهم الأخير بدعم «جيش الرب» المتمرد ضد حكومة كمبالا، ليبقى المشهد فى الجنوب معلقًا بين اتفاق لوقف إطلاق النار، يدرك الكثيرون أنه هش وقابل للانهيار فى أى لحظة، وأطراف دولية تنأى بنفسها عن الظهور فى المشهد، وأخرى أفريقية تنقسم ما بين فريق يخشى من امتداد آثار الصراع إليه، وآخر يستهدف فتح مساحات نفوذ له فى تلك المنطقة.
اللافت فى جولة القتال الحالية أن أطرافًا راهنت على الدولة الوليدة فى جنوب السودان، ودعمت بكل الوسائل انفصالها عن شمال السودان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، سارعت إلى رفع يدها والانسحاب السريع من المشهد، حيث بدا كأنها تنتظر الفرصة للخروج من «جوبا»، بعد أن بدا أنها مطالبة بدفع ثمن دعمها للدولة الوليدة سياسيًا وماديًا، وأن تكلفة الدعم عالية للغالية فى ظل ما يعانيه جنوب السودان من افتقاد البنية التحتية وتدهور فى الأحوال الاقتصادية، فسارعت الولايات المتحدة إلى تقليص بعثتها الدبلوماسية، فيما قامت دول أخرى كاليابان وألمانيا وغيرها بإجلاء رعاياها بـ«جوبا»، دون أن تقدم أى من دول العالم على أية محاولة للتدخل لإنهاء الصراع، وأظهر مشهد الانسحاب الدولى السريع من «جوبا»، ووقوف دول الجوار موقف المتابع أن هناك إدراكًا من الجميع بصعوبة تحقيق السلام فى الجنوب.
ويقول مراقبون إن فى مقدمة أسباب الانسحاب الدولى- والأمريكى تحديدًا- من مشهد الصراع الجنوبى أيضًا، اكتشاف الأطراف التى أسهمت فى انفصال الجنوب عن الشمال أنها حتى لو تحملت تكلفة قيام الدولة الجديدة فإنها لن تجنى عائدًا اقتصاديًا من الجنوب الذى كان واعدًا بالثروة النفطية، وتبين أن تلك الثروة لن تتعدى باطن الأرض الموجودة فيها، حيث تفتقد دولة الجنوب أى منفذ بحرى للاستفادة من ثروتها النفطية وتصديرها للخارج، وهو الأمر الذى شهد جولات من الصراع بين «جوبا» و«الخرطوم» التى أصرت على الحصول على تكلفة مرور النفط الجنوبى، الذى كان يومًا ملكًا لها، عبر أراضيها إلى البحر الأحمر، وانتهى الأمر بقرار من جوبا فى 2012 بوقف تصدير نفطها عبر الأراضى السودانية.
وكانت سفارة جنوب السودان بالقاهرة أصدرت بيانًا أرجعت فيه اندلاع أعمال الاعتقال إلى ما وصفته بشائعات مغرضة، ترددت عن اعتقال رئيس الجمهورية سلفا كير نائبه رياك مشار فى أثناء اجتماع بالقصر الرئاسى يوم 8 يوليو، لبحث الأوضاع الأمنية بالبلاد، وتشكيل لجنة تحقيق عن الأحداث المؤسفة التى وقعت يوم 7 يوليو الجارى بالقتال بين قوتين عسكريتين تابعتين للجانبين، ما تسبب فى اندلاع قتال من جديد داخل القصر الرئاسى بين قوات الحرس الرئاسى، وقوة تابعة لنائب الرئيس.
العدد اليومى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة