قال الدكتور محيى الدين عفيفى، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، إن من يتابع حركة السوق المصرى فى مجال السلع التموينية والمتطلبات اليومية والحياتية يلحظ ارتفاع الأسعار بشكل كبير، الذى أدى إلى انزعاج الناس، وتأثر الفقراء والمحتاجين ومحدودى الدخل بسبب الغلاء وظاهرة احتكار السلع، وتسلط المستغلين من التجار، مما كان سببًا فى ارتفاع الأسعار وقد تحدث الفقهاء عن الاحتكار وبينوا معناه؛ قال ابن قدامة فى المغنى: «وأن يكون الشىء المُحتكر من الأقوات التى يحتاج إليها الناس، وأن يُلحِق المُحتكر الضرر بالناس من جراء ذلك الاحتكار».
وأضاف، فى بحث له بعنوان الرؤية الإسلامية فى مواجهة أزمة الاحتكار، إلى أن معانى الاحتكار تتسع باتساع احتياجات الناس فى هذه الحياة، سواء فيما يتعلق بالأقوات أم بغيرها مما يحتاجه الإنسان فى حياته، ويتم استغلال تلك الحالة من الاحتياج للمبالغة فى رفع الأسعار.
وتابع: إن هذا النمط من السلوك ينطوى على الظلم، ولذا فإن العلماء اتفقوا على أن الاحتكار حرام، والكسب به خبيث لا يحل لصاحبه، روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى ﷺ قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون".
وروى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين فهو خاطئ»، وعن ابن عمر عن النبى ﷺ: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه».
وشدد على أنه ولا شك أن الاحتكار دليل على الأنانية والأثرة وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، مما يكون سببًا فى خلق الأزمات فى المجتمع، وظهور الغل والحقد بين فئاته وقد عمل الإسلام على محاربة ذلك من خلال الحث على توفير السلع التى يحتاجها الناس بالأسعار المناسبة، والسعى فى جلبها وضمان وصولها إلى مستحقيها.
المنفعة الشخصية والتعامل مع الأزمات:
إننا حينما ننظر إلى أحوال الناس وطرق تعاملهم مع الأزمات نقف على صور متباينة من التعاملات، فهناك من يسارع فى استغلال الأزمات فيلجأ إلى رفع الأسعار بشكل غير مقبول، وهناك من يروج للاستغلال ويدعى أن السعر الموجود حاليًا للسلعة المعينة سيصل خلال هذا الشهر إلى كذا وكذا؛ مما يؤدى إلى حالة من الإقبال غير المبرر على الشراء بأسعار مرتفعة خشية ارتفاع السعر أكثر من ذلك، ويعد ذلك تسويقًا غير مباشر للاحتكار، وهذا ما ينسحب على كثير من السلع وعلى سعر الدولار الذى ارتفع بشكل جنونى بسبب الأراجيف وما يتم تداوله عبر المواقع الإلكترونية؛ مما يدفع الناس إلى شراء الدولار وتحويل العملة وتظل الأزمة تتفاقم بسبب المتوالية السلبية من التعاطى مع المتغيرات، ويظل المواطن البسيط يدفع ثمن ما يحدث من اضطراب فى الفهم والتعامل وردود الأفعال.
هذا ما يجعلنا نتساءل عن دورنا فى مواجهة أزمة الاحتكار.
إن الحياة التى نعيشها تعج بصور الأنانية والاستغلال بدءا من الأسرة وانتهاء بالمجتمع فهناك فئات من الآباء والأمهات تقوم علاقاتهم بأبنائهم على الأنانية والأثرة، وعلاقة فئات من الأبناء بآبائهم وأمهاتهم على هذا الحال أيضا، وهناك فئات من الأزواج تقوم علاقتهم بزوجاتهم على الاستغلال منذ لحظة الاختيار، إنه زواج المصلحة الذى لا يهتم بالمودة والرحمة، بل تحركه المنفعة، فهناك صور كثيرة من العلاقات القائمة على المنفعة الشخصية، مما ينعكس سلبا على واقع الحياة.
لا شك أن تلك الذهنية التى تنطلق من المصلحة الشخصية دون الاكتراث بمصالح الناس، تعد بمثابة البيئة الحاضنة للاحتكار مما يجعلنا بحاجة إلى التعرف على نظرة الإسلام لهذه الأزمة التى تمنى بها المجتمعات، وكيف يكون التعاطى مع الظروف القاسية التى يمر بها الناس، هل يقنع الإنسان بدور المتفرج أم يكون له دور إيجابى يسهم من خلاله فى حل الأزمة، بدل أن يكون من أسباب الأزمة.
إن القرآن الكريم بين لنا صورًا رائعة من التعامل مع الأزمات منها على سبيل المثال:
موقف الأنصار من المهاجرين قال تعالى: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علىٰ أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ۚ ومن يوق شح نفسه فأولٰئك هم المفلحون" .
لقد سجل القرآن الكريم تلك الصورة الرائعة من الإيثار الكريم والتطوع العظيم ليكون درسا عمليا للناس على مر الأجيال.
قال الإمام البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبى ﷺ الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: «إما لا، فاصبروا حتى تلقونى فإنه سيصيبكم بعدى أثرة». تفرد به البخارى من هذا الوجه. وقال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قالت الأنصار للنبى ﷺ: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا تكفونا المئونة ونشرككم فى الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به مسلم.
يعنى: حاجة، أى: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم فى حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أفضل الصدقة جهد المقل». فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق (رضى الله عنه) بجميع ماله، فقال له رسول الله ﷺ: «ما أبقيت لأهلك؟». قال: أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا الماء الذى عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن أخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضى الله عنهم وأرضاهم. ماتوا جميعًا عطشى كل منهم آثر أخاه حتى ماتوا جميعا ولم يشربوا إنها صور رائعة من الإيثار وسمو النفس وتألقها.
يقول الطاهر بن عاشور:
إنك إذا أعمقت التدبر وجدت المؤاساة من مقتضيات الفطرة، فليست المؤاساة بحاجة إلى إيوائها تحت ظل الأخوة؛ لأن المؤاساة كفاية حاجة المحتاج عند الشعور بأنه محتاج، ومن الفطرة الإنسانية انفعال النفس برقة ورحمة عند مشاهدة الضعف والحاجة لاستشعار تألم المحتاج، ثم اندفاع بذلك الانفعال إلى السعى فى تخليصه من آلام تلك الحاجة، لا يتخلف هذا الإحساس إلا نادرا، عندما يحف به عارض يعكسه إلى ضده مثل حال عدم الرأفة مما يتقى أذاه كالعقرب والسبع.
فالمؤاساة أصل من أصول نظام الإسلام وكانت من أول ما دعا إليه الإسلام ونزل به القرآن فى أوائل نزوله قال تعالى: "وما أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعام فى يوم ذى مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16)".
ومن آيات سورة المدثر وهى أول القرآن نزولاً: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ.
وجاء فى سورة المزمل وهى من أول القرآن نزولا: "إن ربك يعلم أنك تقوم أدنىٰ من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ۚ والله يقدر الليل والنهار ۚ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ۖ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ۚ علم أن سيكون منكم مرضىٰ ۙ وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله ۙ وآخرون يقاتلون فى سبيل الله ۖ فاقرءوا ما تيسر منه ۚ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ۚ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ۚ واستغفروا الله ۖ إن الله غفور رحيم" يليه ما ورد فى ذلك من الآيات وأقوال الرسول بعد انتشار الإسلام وتتابع الوحي.
لقد تسابق الأنصار إلى المواساة كل بما يجد فكانوا يواسون المهاجرين بدورهم للسكنى وبأن عرضوا على المهاجرين أن يعطوهم ثمرة نخيلهم، فقال رسول الله: «لا ولكن يكفونكم العمل ويأخذون نصف التمر» وبلغ السخاء ببعضهم أن عرض على بعض المهاجرين أن ينزل له عن إحدى زوجتيه ليتزوجها، ففى صحيح البخارى أن سعد بن الربيع الأنصارى وكان أخا لعبد الرحمن بن عوف المهاجرى بالمؤاخاة التى بين المهاجرين والأنصار وكانت له زوجتان وكان عبد الرحمن عزبا فقال سعد لعبد الرحمن: انظر أى زوجتى تحب أن أتنازل لك عنها وأعطيك نصف مالي. فقال له عبد الرحمن بارك الله لك فى أهلك ومالك ولكن دلنى على السوق. وهذا المقدار من المؤاساة أريحية من هذا الأنصارى دلتنا على مبلغ تسابق الأنصار فى مؤاساة المهاجرين.
إن المؤاساة تظهر فى أنواع كثيرة من الأعمال منها: الزكاة والصدقة والإنفاق والهبة والإسلاف والعارية والإرفاق والعتق بأنواعه. والإسكان والإخدام والمنحة.
هذه هى الرؤية الإسلامية فى مواجهة الأزمات والإسهام فى حلها بشكل عملى يشعر المسلم بواجبه الإنسانى نحو الناس جميعا المسلم وغير المسلم ولعل موقف عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- من هذا الرجل اليهودى خير شاهد على الجوانب الإنسانية التى يرسخها الإسلام فى نفوس أتباعه حتى يستطيعوا مواجهة الأزمات بطريقة تحترم إنسانية الإنسان. فقد أبصر عمر شيخا كبيرا من أهل الذمة يسأل، فقال له: ما لك؟ قال: ليس لى مال، وأن الجزية تؤخذ مني، فقال له عمر: ما أنصفناك، أكلنا شيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير».
فعلى عهد رسول الله ﷺ مر المسلمون بأزمات اقتصادية طاحنة فى حصار قريش للمسلمين فى مكة وفى الهجرة وفى غزوة تبوك وتجهيز جيش المسلمين وفى عام الرمادة سنة 18هـ فى عهد عمر بن الخطاب لكن كيف تم التعامل مع هذه الأزمات؟
فمن الأمثلة الرائعة على عهد رسول الله ﷺ عثمان بن عفان كان أجود الناس بماله فى كل محنة وشدة أصابت المسلمين، فعندما قدم النبى ﷺ المدينة والمسلمون معه شكا المهاجرون من قلة الماء، وتغير طعمه، ولم يجدوا بها غير بئر واحدة ماؤها عذبة ولكنها كانت ملكا ليهودي، كان يغالى فى ثمنها ويحتكر ماءها.
فقال النبى ﷺ: «من يشترى بئر رومة غفر الله له» فأتى عثمان بن عفان وتفاوض مع اليهودى واشتراها ليشرب المسلمون منها.
ولما ضاق مسجد الرسول ﷺ بالمدينة بالمسلمين، حث الرسول المسلمين على توسعة المسجد.
فقال من يشترى بقعة فلان فيزيدها فى المسجد غفر الله له، فتقدم عثمان واشتراها وضمها لمسجد رسول الله.
وفى غزوة تبوك وهى التى تجهز فيها الروم لمداهمة المسلمين، وكان المسلمون فى زمن العسرة وشدة جدب الأرض فلما علم النبى ﷺ دعا المسلمين إلى تجهيز جيش المسلمين لقتال الروم والهجوم عليهم فى تبوك قبل أن يهاجموا المسلمين، وكان عثمان رجلا تاجرا قد جهز عيرا إلى الشام فيها مائتا بعير فحولها وقال هذه فى سبيل الله بما عليها ومائتا أوقية من الذهب فأفرغها أمام رسول الله فصار النبى ﷺ ينكت فيها بعود كان بيده ويقول: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
وقد لقى جيش المسلمين ما لقى من الجهد والجوع فى غزوة مؤتة فسارع عثمان إلى تجهيز الطعام والمؤن من ماله الخاص للمسلمين فلما رأى رسول الله ﷺ ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنى رضيت عن عثمان فارض عنه ثلاث مرات، ثم قال: يا أيها الناس ادعوا لعثمان فدعا له الناس جميعا.
ولم يقتصر جوده وسخاؤه على عهد رسول الله بل ظل كريما حتى لقى ربه.
فعلى عهد أبى بكر -رضى الله عنه- أصابت الناس شدة فقال أبو بكر لا تمسون حتى يفرج الله عنكم فلما كان الغد جاء البشير فقال: قدمت لعثمان ألف راحلة تحمل برا وطعاما فغدا التجار على عثمان فقرعوا بابه وطلبوا منه أن يبيعهم ما عنده فقال لهم عثمان كم تربحونى على شرائى من الشام قالوا العشرة اثنتى عشرة. قال لقد زادوني، قالوا العشرة أربعة عشرة. قال لقد زادونى: قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: لقد زادوني، قالوا: ومن زادك ونحن تجار المدينة. قال لقد زادنى الله لكل درهم عشرة "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ۖ ومن جاء بالسيئة فلا يجزىٰ إلا مثلها وهم لا يظلمون"، قالوا: لا نقدر على ذلك.
قال فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المسلمين.
إنه نموذج رائع للعطاء والتضحية والقدوة فى مواجهة الأزمات، هذا النموذج يشعرنا بدورنا المجتمعى فى مواجهة أزمة الاحتكار وبين قدرة كل إنسان على حل تلك الأزمة ومساعدة المحتاجين، والتخفيف من معاناتهم من خلال العديد من السبل لكن شريطة التسامى على حظوظ النفس والمصلحة الشخصية وتغليب المصلحة العامة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة