انقضى العصيان المدنى فى السودان بأيامه الثلاثة، وبدأت الحياة تعود إلى طبيعتها على استحياء إلا أن الشعب السودانى ونظام عمر البشير لن يعودا كما كانا قبل الأحد الماضى، بعد أن استطاعت دعوة عبر مواقع التواصل الاجتماعى لا يقف ورائها قوة سياسية بعينها أن تصل إلى قطاعات عريضة من الشعب السودانى.
مدى نجاح العصيان المدنى تفاوت تقييمه من فصيل سياسى إلى آخر إلا أن المحصلة تؤكد أنه نجح فى إيصال رسالته التى انطلقت من داخل الشعب السودانى الغاضب من سوء أوضاعه الاقتصادية، لكن هل استقبل النظام السودانى والرئيس عمر البشير الرسالة؟
المراقبون للأوضاع فى السودان يؤكدون أن العصيان هذه المرة يختلف عن سابقيها، فالأزمة بدأت بوادرها الأسبوع الماضى بعد قرارات الحكومة برفع سعر البنزين والديزل بنسبة 30 فى المئة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الحيوية، بالتالى فالخلاف ليس سياسيا مع النظام بل يتعلق بأوضاع المواطن السودانى المتدهورة.
وأكثر من استجاب لدعوات العصيان المدنى غير المدعوم من قوى سياسية كان الشباب السودانى وتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات والبسطاء والطبقات المطحونه من العمال وغيرهم الذين لا يعيرون للتوجهات السياسية والحزبية أوزانا، وهو ما يصعب المهمة على النظام السودانى حيث لا يوجد فصيل يمكن تخوينه او اتهامه بالتأمر، فوجد نفسه فى مواجهة الشعب.
واعتبرت الصحف السودانية ما قام به تحالف مكوّن من 22 جهة سياسية (أحزاب ومنظمات ومؤسسات مجتمع مدنى وشخصيات وطنية معروفة) بالتوجه إلى القصر الجمهورى لتسليم مذكرة تطالب الفريق عمر البشير بالتنحى وتسليم السلطة للشعب بمثابة محاولة شجاعة لوضع مؤسسة الرئاسة السودانية أمام مسؤولياتها والتنبيه للأوضاع الخطيرة التى تمرّ بها البلاد، وذكرت الصحف والمواقع السودانية بالرئيس السودانى عبد الرحمن سوار الذهب، الذى أوفى بوعده بتسليم مقاليد الحكم لحكومة منتخبة وبعدها اعتزل العمل السياسى للتفرغ للعمل الدعوى الإسلامى.
ويبدو أن النظام السودانى لم يستقبل لا الرسالة المادية ولا المعنوية مما شهدته البلاد خلال الـ72 ساعة عصيان، ورفضت إدارة القصر الجمهورى استلام المذكرة متعلله بسفر الرئيس للامارات، أما الرسالة المعنوية فتؤكد أن سابقة مخاطبة القصر الجمهورى والتحرك نحوه تعد مؤشرا لوصول الأوضاع إلى منعطف خطر.
النظام السودانى قابل العصيان المدنى كالمعتاد بتعتيم إعلامى، على مدار الأيام الثلاثة أغلق قناة أم درمان الخاصة متعللا بأنها تعمل دون ترخيص، كما صادر الأمن السودان، عددا من الصحف بلغت أمس إلى خمس صحف مستقلة، بعد طباعتها، وهى صحيفة اليوم التالى، وصحيفة الجريدة، وصحيفة التيار، وصحيفة الوطن، وصحيفة الأيام.
وكشف صحفيون سودانيون، أن مصادرة نسخ الصحف الخمس، بعد طباعتها، تمت دون أحكام قضائية، بينما يؤكد المسؤولون الحكوميون، أن القانون يتيح للجهاز تعليق صدور الصحف، فى حال نشرها مواد "تضر بالأمن القومى"، لكن حقوقيين يقولون، إن القانون لا يعطيهم هذا الحق.
وكشف رئيس تحرير صحيفة "الجريدة" المستقلة، أشرف عبد العزيز، عدم تلقى إدارة تحرير الصحيفة أى إخطار بأسباب المصادرة، مشيرا إلى أن مصادرة الصحيفة حدثت بعد اكتمال مراحل طباعتها، وكتبت صحيفة الجريدة، فى نسختها الإلكترونية ردا على تصريحات النظام السودانى بفشل العصيان أنه لا ينبغى للحزب الحاكم وقياداته أن يفرحوا، فقد بلغ غليان الشارع أقصاه، منوها إلى أن هناك خوفا اعترى قيادات الحزب الحاكم، مشددا على أنه انتهى وقت مسك العصا من نصفها، مطالبا قيادات الحزب بإعادة النظر فى تجربة العصيان المدنى وتحليلها.
ونقلت صحيفة المجهر السياسى، أن الشؤون الإدارية بالوزارات والمؤسسات السودانية، بدأت عمليات تفتيش ومراجعة للموظفين، بجانب حصر الحضور والغياب للموظفين العاملين بالدواوين الحكومية، توطئة لاتخاذ إجراءات محاسبية فى مواجهة المتغيبين عن العمل، لردعهم عن المشاركة فى العصيان المدنى، فضلا عن اعتقال قوات الأمن الأسبوع الماضى 4 شخصيات معارضة بارزة، من بينها السياسى صادق يوسف، وهو قيادى فى أكبر ائتلاف سياسى معارض ونقلت الإذاعة السودانية عن أحمد بلال عثمان، وزير الإعلام، قوله إن المعتقلين ستوجه لهم اتهامات محاولة التحريض على أعمال شغب.
ومن جانبها، تحاول القوى السياسية المعارضة فى السودان استغلال النجاح الجزئى للعصيان المدنى فى السودان، حيث قال محمد محمود، الناطق باسم حركة "النضال السودانية"، إن الشارع السودانى يشهد نقلة نوعية خاصة مع نجاح الاعتصام، وبداية مرحلة جديدة من المظاهرات المنظمة التى دشنتها نقابتا الصحفيين والمحامين؛ لمساندة حركة الشارع والتغيير فى السودان، مؤكدًا أن "البشير" نفسه وعدد من الوزراء سافروا إلى الإمارات؛ فرارًا من مواجهة "العصيان".
فيما أكد حزب المؤتمر السودانى أن العصيان المدنى نجح بنسبة 100% وقال عبد المنعم عمر الرئيس المكلف لحزب المؤتمر السودانى فى مقابلة مع راديو دبنقا إنه "لم نكن نتوقع أن تكون نسبة نجاح العصيان المدنى بنسبة 100%".
وتابع: إن نجاح العصيان المدنى حفز الشعب لمزيد من الخطوات التصعيدية ضد الطغيان وحفز المترددين من المشاركة، كما أن النظام يسيطر على الإعلام والصحف ويستخدمها فى الدعاية السلبية والتخزيل والتقليل من حجم المقاومة والعصيان. وأنه بحسب تقييمهم الميدانى فإن العصيان قد نجح وأن الشباب استطاعوا استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بشكل أفضل مما أحدث هزة فى الشارع السودانى.
ومن جانبه اعتبر الدكتور غازى صلاح الدين رئيس حزب حركة الإصلاح، أن ما حدث من عصيان مدنى يؤكد أن القوة النابضة الحية الموجودة قد تكون راكدة لكن يمكن أن تنبعث وتشتعل وتكتسح من هو أمامها. وأن من نجح فى المرة الأولى جدير أن ينجح فى المرة الثانية والثالثة ستكون أدعى للنجاح.
وأضاف أنه إذا كان هناك وقت تراجع فيه السياسات والمواقف بالنسبة للحكومة وتتبع صوت العقل وليس صوت الإثارة والتهوين والسخرية من الآخرين لكان الوضع الآن أفضل. وأن الحكومة الآن فى اختبار مصيرى ولا تملك إلا أن تحدد خياراتها على ضوء ما حدث من عصيان مدنى وتبيان أى الخيارات تريدها، مشيرا إلى أن "التجارب الإنسانية كلها مضت على هذا المنوال.
وبين مزاعم النظام بفشل العصيان المدنى وترويج المعارضة لنجاح الاعتصامات والمطالبات للبناء عليها يبقى الوضع فى السودان كالرماد، يخفى تحته نارا قد تشتعل فى أى وقت إذا لم تجد صوتا عاقلا يستمع لمطالب الشعب السودانى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة