لا شك أن موسم انتخابات الرئاسة الأمريكية الحالى غير مسبوق على الإطلاق فى تاريخ الولايات المتحدة السياسى القصير نسبيا.. فلأول مرة تترشح امرأة فى سباق البيت الأبيض، ولأول مرة يترشح عن الحزب الجمهورى شخص غير سياسى "من خارج المؤسسة" يخوض حربا ضد الجميع وأولهم الحزب نفسه. وفى ظل هذا الوضع، يلعب الإعلام الأمريكى سواء الرسمى ممثلًا فى الصحف والمحطات الإخبارية البارزة، أو غير الرسمى، دورًا استثنائيًا فى انتخابات من المرجح بشدة أن تكون نتيجتيها تاريخية.
أما عن الإعلام الرسمى، فقد أثبتت تلك الانتخابات نهاية أسطورة الحياد الصحفى الغربى فى التغطية الإخبارية لقضايا الداخل، مثلما انهارت من قبل مزاعم الحياد إزاء دول العالم. فتحولت بعض الصحف والقنوات من وسيط بين النخبة السياسية والرأى العام إلى أداة فى يد الفئة الأولى لدفع الفئة الثانية لتبنى موقف ما مستغلين حقائق موجودة بالفعل تارة، وتسريبات فى توقيتات معينة تارة آخرى.
صحيح أنه من تقاليد الصحافة الأمريكية اأن تعلن كل مؤسسة بشكل رسمى عن دعمها لمرشح ما، سواء جمهورى أو ديمقراطى، وتسرد فى مقال لهيئتها التحريرية أسباب تبنيها هذا الموقف. إلا أن الأمر فى الموسم الانتخابى الجارى تجاوز مجرد إعلان الدعم إلى محاولة تعزيز حظوظ مرشح عن آخر بنشر كل ما يشوه ويلحق الضرر بمنافسه فى توقيتات قاتلة.
حرب التسريبات الصحفية
فقد أعلنت صحف عدة من بينها "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"فورين بوليسى" و"ذى أتلانتك" رسميا دعمها للمرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون، رافضن غوغائية دونالد ترامب التى رأوا أنها تمثل تهديدا للنموذج الليبرالى الأمريكى. ولأول مرة فى تاريخها أيضا، اتخذت صحيفة "يو إس إيه توداى" طرف مرشح عن آخر بإعلانها عن دعمها لكلينتون.
لكن خلف هذا الموقف، ظهرت محاولات بعض تلك الصحف ترجيح كفة كلينتون. فمع اقتراب يوم التصويت، المقرر فى الثامن من أكتوبر المقبل، وقبل بدء المناظرات الرئاسية الهامة، ظهرت حرب التسريبات الصحيفة ضد المرشحين. بدا الأمر بتقرير صحيفة "نيويورك تايمز" عن سجلات ترامب الضريبية، كشف فيه بالوثائق أن المرشح الجمهورى تجنب دفع أى ضرائب منذ عام 1995، وأنه استغل إعلانه خسارته 916 مليون دولار فى عائدات ضريبة الدخل هذا العام، الأمر الذى سمح له بشكل قانونى تجنب دفع أى ضرائب فيدرالية منذ هذا الحين. وأحدث هذا التقرير ضجة هائلة عند نشره، نظرا لأن دونالد ترامب أثار قبلها جدلا واسعا برفضه الكشف عن سجلاته الضريبية مثلما فعلت كلينتون.
بعدها نشرت واشنطن التسجيلات التى سببت أكبر أزمة يواجهها ترامب فى حملته الانتخابية، والذى تحدث فيه بشكل جنسى فج عن النساء، وهو الأمر الذى دفع حتى السياسيين الجمهوريين البارزين إلى إعلان تخليهم عن مساندة مرشح الحزب فى انتخابات الرئاسة، ومنهم رئيس مجلس التواب بول ريان الذى قال أنه لن يدعم ترامب ولن يدافع عنه بعد الآن بسبب هذه التصريحات المحرجة. وكانت توقيت نشر التسجيلات قاتلا لترامب، فجاء قبل ساعات من المناظرة الرئاسية الثانية التى تلعب دورا كبير فى التأثير على الناخبين، على الأقل الذين لم يحسموا أمرهم بعد.
على الجانب الآخر، وفى ظل هذا الوقت الحرج للحملة الرئاسية حاولت المؤسسات الإعلامية المساندة لترامب توجيه سهام جارحة لمنافسته الديمقراطية ومحاولة وقف نزيف خسارته بتحويل الانتباه إلى ما يمكن أن يكون انتهاكات من مسئولة سابقة تولت مهام الخارجية، وتسعى لشغل المقعد البيضاوى. فجاءت تسريبات ويكيليكس لرسائل البريد الإلكترونى لمستشار كلينتون جون بوديستا. وهى تسريبات رغم أنها لا ترقى لدرجة "الفضيحة" لكنها تكشف عن أمور محرجة لم تكن كلينتون بالتأكيد ترغب فى أن يعرف بها الأمريكيون فى هذا الوقت تحديدًا.
وقد كشفت هذه التسريبات عن دور غامض لمؤسسة كلينتون واستغلال وجود هيلارى داخل الخارجية، إلى جانب إعراب بعض الديمقراطيين عن شكوكهم فى قدرات مرشحتهم، ضمن أمور أخرى كثيرة. وكانت تلك التسريبات بمثابة الهدية لترامب التى استغلها لشن هجوم مضاد على منافسته بعدما تفوقت عليه فى المناظرتين، وانعكس ذلك بشكل واضح على استطلاعات الرأى التى كشفت اتساع الفارق بينهما لصالح كلينتون.
السوشيال ميديا
وكان للإعلام غير الرسمى أكثر أهمية أيضا وغير مسبوق فى الانتخابات الأمريكية، ربما لأن المكانة التى يحظى بها فيس بوك وتويتر الآن ليست كما كانت فى الانتخابات السابقة. وكانت صحيفة واشنطن بوست فد ذكرت فى تقرير لها الأسبوع الماضى حملتى المرشحين فى انتخابات الرئاسة الأمريكية تستعينان بشبكة سرية من المغردين السياسيين على تويتر، الذين يقومون بنشر الصور المركبة المصحوبة بشعارات والتى يطلق عليها اسم "memes" أثناء المناظرات الرئاسية. وأشارت إلى أن الهدف من هذا النشاط خلق "ترندات" على تويتر من شأنها أن تؤثر على انطباعات الصحافة.
وأوضحت الصحيفة أنه بعد انتهاء المناظرة الرئاسية الثانية، انتشر على موقعى فيس بوك وتويتر اثنتين من الصور المركبة المتنافسة. واحدة تصور هيلارى كلينتون وهى مبتسمة، مع شعار حملتها "أنا معها" مكتوب بخط أسود كبير أعلى الصورة. والثانية تربط صورة لكلينتون مع ظل أحمر مكتوب عليها "هيلارى كلينتون لديها تعهد انتخابى من ثلاث كلمات وهو "I’m with Her" أو أنا معها. وأسفلها صورة لترامب مكتوب عليها "لدى تعهد مختلف وهو أنا معك أيها الشعب الأمريكى".
وحصلت الصورتان على عشرات الآلاف من الليكات والمشاركة على السوشيال ميديا. إلا أن كلاهما لم ينبعا من فقد تم ابتداعهما وترويجهما من قبل حملتى كلينتون وترامب على التوالى. وفى حين أنه ربما لا يكون هذا واضحا لمستخدم تويتر العادى، إلا أن معسكرى كلينتون ترامب قد وضع قائمة من شبكات المؤيدين لهما من أجل تضخيم رسائل منتقاة قبل وأثناء المناظرات.
ويطلق المخططون الإستراتيجيون على هذا الأمر استجابة سريعة، وهو الأسلوب الذى يقوم بتشكيل المنظور الانتخابى فى الوقت الحالى مع أثناء وقوع الحدث. وكان هذا الأمر يعنى قبل 10 سنوات الحديث إلى الصحفيين. لكن الآن، يعرف الفريق الإلكترونى فى كل حملة أن القصة التى ستنشر فى اليوم التالى عن المناظرة تعتمد فى جزء منها على ما سيكون "ترند على توتير" فى الليلة السابقة. ولذلك، طُلب من أنصار كلينتون أن يقوم "بتشيير" شعار مرشحة الحزب الديمقراطى "أنا معها" عند الساعة الرابعة و46 دقيقة بالتوقيت المحلى. وبعد خمسة ساعات، تلقى أنصار المرشح الجمهورى رسالة إلكترونية مشابهة من فريق ترامب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة