الآن يا صديقتى أكتب إليك وأنا لم أرك منذ أيام كثيرة.. كان لقاؤنا الأخير مختلفًا.. أحسست فيه أننى مجرد ضيفة لا مكان لى يقيم.. كان لقاءً خاطفًا، حتى أننى لم أجد فى الوقت متسعًا كى نجلس أنا وأنت وحدنا معًا.
وها أنا ألملم ذكرياتى من حولك وأرحل.. صديقتى لقد دفعتنى الأيام على هذا الرحيل الذى يشبه الخريف المعتم، لكن أنت من علمنى أن لكل خريف ربيع يليه.. حين كانت تهجرك كل الأوراق الخضراء وتسقط أرضًا، تدوسها الأقدام غير مبالية.. أتذكرين؟ كانت تزروها الرياح وتتجمع فى الأركان وكانت بالنسبة لمسؤول النظافة أشياء ثقيلة تزيد من مهامه.. وكانت بالنسبة لى رسائل منك تحمل حكمة بالغة.. حكمة مرور الأيام وتتابع الفصول.. وكنت أفهمك يا صديقتى الأولى.. كنت أفهم رسائلك.. نحن البشر أيضًا تتابع فصولنا، وتحمل قلوبنا المشاعر تارة خضراء نضرة وتارة أخرى تذبل وتسقط وتزروها رياح الزمان والنسيان.
كنت آتى باكرًا عن موعدى حتى يتسنى لى متابعة احتفال العصافير السعيدة دائمًا بصباح الشتاء، كنت أجلس وحدى على الرصيف الأصفر ونظراتى تطير خلف العصافير المرحة وأتمنى أمنية سريعة أن يمنحنى الله جناحين كى أشاركها مرحها.. أجلس معك وأحكى كل شيء، أفرغ كل ما فى جعبتى من أغانٍ.. وأنت دومًا تسمعين وتشعرين بكل شىء خبأته أنا فى أعماق قلبى.. أعرف أنه بعد قليل سيتوالى توافد الطلاب وسيزداد حضورهم حتى لا يصبح هناك متسع للهو العصافير.. كل منهم يحمل مشكلاته الصغيرة وهذا المكان الهادئ الذى كان مسرحًا لأجنحة العصافير سيعج بحكاياتهم وركضهم وصراخهم المجنون.. وطبعًا ستعود العصافير لتختبئ بين أغصانك.
حين كنت فى عامى الدراسى الثالث، خرجت من محاضرة لتوّى هرعت إليك فهالنى ما رأيت.. كانت فروعك الممتدة لأعلى كأيدى ناسك، مُلقاة على الأرض! هل تعلمين أى وجع اخترقني؟! أتعلمين أنى سمعت بكاءك يومها وشعرت بكل ألمك؟! لكنى لم أستطع فعل شيء.. فقط كانت تلعنهم نظراتى وصليت مرارًا كى لا يكرورا جريمتهم فى العام التالي.
أما ما تصنعين من توت، فتلك سعادة عاجزة أنا عن وصفها.. شيء تقف أمامه لغتى حائرة.. شيء ما على قدر بساطته رائع. أنا أعرف أنك أنفقت طوال السنة تصنعينها من قبلات الشمس، كنت أتابعك حين تتركينها تسقط فى أمومة وعطاء يقيم إعصارًا من السعادة فى رأسي.. كنت أجمعها وقلبى يفيض بالشكر لله الذى علمك كيف تصنعينها ووضع فيها كل هذا الحب والشهد المصفّى.. سعادتى فى أن أشارك سكانك من العصافير الرمادية والببغاوات الخضراء طعم تلك السعادة الغضة.
أرأيت؟ إنك قد صرتِ أجمل مكونات غرفة ذكرياتى الصغيرة! كل شيء أصبح منقوشًا فى ذاكرتي، أوراقك اليابسة قبل التوت الأخضر، أغصانك الفارغة قبل اشتعالها بربيعك. أنت التى تحمل ذكرياتى على فروعها. أنت التى سقيتها أمنياتى يومًا.. أنا أفخر بصداقتك وأكتبها على دفاترى الملونة وأنا دائمة الحديث عنك وعن أخبارك برغم ما تجلب لى من سخرية أحيانًا.
أنت تعلمين أن الصداقة أغلى ما فى الوجود .. تعلمين أنها أغلى ما أملك دائمًا.. سواء أن عقدت صداقتى مع بشر أو مع شجرة أو مع نبتة صغيرة أو حتى مع العصافير الزائرة لشرفتى التى لا تستمر صداقتى بها سوى دقائق صغيرة. أو حتى صداقتى مع الرصيف الأصفر الذى يغرقه ظلك، ذلك كنت أشعر أنه كائن حى يحمل لى ذكرياتى ومرح حديث الأصدقاء .. فلا تنسى صديقتك دائمة الحديث لك عن أسرار قلبها.. لا تنسى من كانت تلقى عليك سلام الأصدقاء، مهما ركضت الأعوام بعمرك وعمرى وتتابع الربيع والخريف على أغصانك فلا تلاقينى لقاء غرباء.. كونى دومًا صديقتى شجرة التوت، ذات الهدايا الخضراء الغضة .
مارينا فارس تكتب: صديقتى ذات الهدايا الخضراء
الأربعاء، 16 سبتمبر 2015 11:02 ص
حديقة خضراء بها عصافير - أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة