وقد أكدت المواقع أنه برحيل الشاعر المصرى الكبير عبد الرحمن الأبنودى انفرطت آخر حبات عقد طويل من شعراء العامية المصرية الكبار، إذ كان يمثل حلقة من جيل أسس لشعر العامية المصرية كفن قائم بذاته مستفيدًا من كتابات عبد الله النديم وأزجال بيرم التونسى.
وكتب عباس بيضون فى صحيفة السفير "الأبنودى: أيقونة الشعر المصرى" قائلا: رحيل عبد الرحمن الأبنودى ليس حدثًا عاديًا، فالأبنودى ليس شاعر الشعب فحسب لكنه قد يكون أيقونة الشعر المصرى، بل هو مؤلف الملحمة المعاصرة لتاريخ هذا الشعب. لا يوجد مصرى لا يحفظ أبياتًا للأبنودى أو يجهل من هو الأبنودى، ليس لأن أشعاره تغنّت من قبل كبار المغنين فحسب بل لأن هذه الأشعار المجبولة بالطين، بالخبز، بالأشجار، بالشقاء الشعبى، بيوميات الفلاحين والفقراء وأهل المدينة المكافحين فى شوارعها وحوانيتها. هذه الأشعار يجد فيها كل مصرى ما يشبه حكايته، نزوحه من الريف والذكريات التى خلّفها هناك والناس الذين تركهم وراءه. ومن الطين الذى سقاه عرقه ودمه، يجد فيه كفاح أبويه وشقاء عمته وخالته وأخوته، الأبنودى لم يكن يخجل من أن يروى قصته الخاصة تحت أسماء أخرى: أحمد سماعين على سبيل المثال.
لم يكن الأبنودى مجرّد قوّال، كان بالتأكيد تربى على تراث القوّالين، وبالتأكيد علقت على لسانه الملاحم الشعبية، وبالتأكيد تمرّس بمقامات الكلام كلها، وبالأوزان وطرائق القصيد وإيقاعات الفولكلور المصرى الشاسع، بالتأكيد امتلأ الأبنودى من هذا التراث وبالتأكيد كانت لديه سليقة القوّال وموهبة الارتجال وفن الحكّائيين ورواة الملاحم، لكن الأبنودى الذى عاش فى المدينة شرّق بلغته وغرّب. استغرق بلغته بقاع مصر كله. مزج التراث الفلاحى بايقاعات المدينة، حكى حيوات صعاليك المدن ومشرديها. متبطليها ورواد مقاهيها، عمالها وأهل حوانيتها وفعالتها وشغيلتها. لقد نقل الايقاعات الريفية ومقامات الشعر الشعبى وأوزانه إلى زواريب المدينة وميادينها وساحاتها وحشودها وضجيجها وباصاتها وقطاراتها.
فى شعر الأبنودى تزدوج حكايا الشوارع بحكايا الحقول، وفى شعره حكاية الإنسان العادى فى الريف وفى المدينة، وفى شعره يزدوج السرد المدينى واليوميات المدينية والعاديات المدينية بملاحم الريف وتراثه وإيقاعاته وفولكلوره وأناشيده.
لكن الأهم من ذلك أن الأبنودى جعل من هذه اللغة المزدوجة الشاسعة ومن هذا المزيج الريفى المدينى ما يمكن أن نسميه ملحمة مصر. لقد استطاع أن يحول الكلام العادى ولغة اليوميات والتفاصيل البسيطة إلى شعر نابض. لم يبق الابنودى قوالاً ومرتجلا. لقد صاغ من هذا الخليط اللغوى، من هذه الذاكرة الشاسعة، من حكايته الشخصية، من يومياته الخاصة، استطاع أن ينسج من هذا المزيج المتفاوت المتفارق غناء نابضاً مترسلاً دافئاً مشعاً. لقد استطاع أن يحول السرد العادى إلى إيقاعات لاهفة وإلى حنين وإلى أشواق. لنقل ان الابنودى استطاع ان يحول الحياة العادية إلى شعر بل وإلى ملحمة، وإلى حكاية للتاريخ المصرى الراهن.
الأخبار البنانية تقدم ملفا كاملا عن الأبنودى
وقدمت صحيفة الأخبار اللبنانية ملفا كاملا عن الأبنودى فكتب "سيد محمود" مصر فقد وجدانها ، يؤكد أن عبد الرحمن الأبنودى استجاب لشائعات موته ورحل، أمس، على نحو جعل جمهوره العريض يكتب على فيسبوك: «القلب الأخضرانى دبلت فيه الأغاني»، جملة من إحدى الأغنيات التى كتبها لعبد عبد الحليم حافظ، قبل موته، تعرّض الشاعر المصرى الكبير لحملة اغتيال معنوى من بعض النشطاء بسبب مواقفه السياسية الأخيرة التى انطوت على دعم كبير للرئيس عبد الفتاح السيسى، ومعها سخرية من الشباب المحسوبين على الثورة.
بينما كتب عبد الرحمن جاسم "حبيبته فلسطين" كان صاحب "حبيبتى فلسطين" يعطر شعره دائماً بكثيرٍ من حبٍّ لفلسطين، وكان يردد أن "فلسطين تعيش فى ضمائرنا". عشق عبد الرحمن الأبنودى القدس، وربط بين آلامها وآلام المسيح، فكتب قصيدته الشهيرة «المسيح»: «على أرضها طبع المسيح قدم، على أرضها نزف المسيح ألم، فى القدس فى طريق الآلام، وفى الخليل رنت تراتيل الكنايس وفى الخلا صبح الوجود إنجيل".
وكتب محب جميل و"تعيشى يا ضحكة مصر" يقول بأنه لعبت بساطة عبد الرحمن الأبنودى دوراً بارزاً فى التأصيل للأغنية الوطنية المصرية. ربما لأن الشعر هو وجدان العرب، والأغنية هى حالة الشجن التى تصل لكل من لا يجيد القراءة والكتابة. قصائد الأبنودى الوطنية أشبه بالكرات الزجاجية التى تنكسر فى عمق الروح وتتشظى إلى ملايين القطع الصغيرة التى تضيء عتمة الأيام.
كما كتب أيضا "محب جميل " «الخال» وأمل دنقل... جنوبيان بقلب أخضر، يقول ، إنها الخطوات الأولى التى تأخذ شاعرين بحجم أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى إلى فناء العاصمة الواسع بعيداً عن كروم الصعيد وأغنيات الجنوب. «أنت هتبقى أشهر وأغنى مني، بس أرجو لما يجى اليوم ده، نكون أصدقاء». هكذا أخبر دنقل صديقه الأبنودى أثناء الدراسة الثانوية فى قنا.
تلك الجملة ظنّها «الخال» نكتةً فى البداية، لكن عندما زار صاحب «أوراق الغرفة 8» فى أواخر أيامه فى معهد الأورام، بكى بشدة. ظلّ الأبنودى محتفظاً بتلك الجملة فى جنباته ولم ينسها.
وكتب مايكل عادل "فى ليلة التشييع يا خال، «كان القمر غافل»... فصدقت، يقول "ما أجمل نومة على كتوف أصحابك، تنظر صادقك من كذّابك، تبحث عن صاحب أنبل وش فى الزمن الغِش، والرؤية قصادى اتسعت". الجملة نقشها عبد الرحمن نجل الشيخ محمود الأبنودى والسيّدة فاطمة قنديل، تلك الجملة التى أعادت تعريف فلسفة الموت لدى أجيال، تلك الجملة التى رددناها مع كل شهيد يرتقى ونحمله، تلك الجملة التى أتبعها الأبنودى قائلاً "تعالوا شوفوا الدنيا من مكانى".
الأبنودى والموت
لم يقلل الأبنودى يوماً من شأن الموت. كُلّما تحدّث عبد الرحمن عن الموت فى قصيدة كان يتحدث كالميّت، كان يصف ما يراه من أعلى، ويصف أحاديث البشر السائرين خلفه وروحه التى تسبقهم، ونقول كان لأننا اليوم أمام حقيقة جافّة وصلبة، قدر جفافها وصلابتها هو نفسه قدر كونها حقيقة، نقول كان لأننا اليوم نتحدّث عن الأبنودى ميّتاً.
وكتب محمد الخولى "رحل فى ذكرى جاهين" هذه المرة، لم يخرج الخال على مروّجى شائعات موته، وأعلن رسمياً أمس عن وفاة الأبنودى بعد صراع طويل مع المرض. رحل صاحب السيرة الهلالية، فى اليوم الذى رحل فيه صديقه، صلاح جاهين، كأن القدر أراد أن يربطهما، فى النهاية كما ربط بداية الأبنودى بجاهين، الذى كان له فضل كبير فى تقديم الأبنودى للناس، وتعريفهم على فارس الشعر الذى سيحمل الراية بعد جيل جاهين وفؤاد حداد. الأخير كان له باب ثابت فى مجلة «صباح الخير» هو "قال الشاعر"، فقدمه جاهين إليه وأطلعه على القصائد التى كتبها.
علاقة الأبنودى بصلاح جاهين
جاهين قدم الأبنودى فى بابه الشهير فى مجلة «صباح الخير» الذى كان يحمل اسم "شاعر جديد يعجبني". العلاقة بين الأبنودى وجاهين كانت قوية، وكانا فى التيار الذى ساند ثورة يوليو وكتب لها وعنها. وحتى عندما تفرقا بعد هزيمة 1967 ظل الاحترام بينهما. ورثى الأبنودى جاهين فى قصيدة طويلة أسماها "موال .. وطقطوقة.. صلاح چاهين" جاء فيها: "عاش عمره يشبه نفسُه/ وفى صدقه شخص عادي/ أمله رماه ليأسُه/ قالّك: «بلاش السنادى» ورحل صلاح جاهين".
وكتب محمد عبد الرحمن " نجم الـ «توك شو» حتى اللحظة الأخيرة، كان عبد الرحمن الأبنودى يحب الأضواء وكانت الأضواء تحبه. عاش حياته محط الأنظار حتى آخر ساعات حياته. لم يمنعه المرض من إجراء الحوارات التلفزيونية والصحافية حتى وهو داخل المستشفى. بل كتب قصيدة للمؤتمر الاقتصادى بعنوان «هنكمل» بثتها القنوات المصرية فى منتصف آذار (مارس) الماضى لتكون آخر قصائده على الإطلاق.
وكتب أحمد شوقى على فى المدن "الأبنودى الذى عانده شعره وأقسم عليه فأجاب" يقول ، "أماية/ وانتى بترحى بالرحى/ على مفارق ضحى/ -وحدك- وبتعددي/ على كل حاجة حلوة مفقودة/ ماتنسنيش يامه فى عدودة/ عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن/ لاتولولى فيها ولا تهللى/ وحطى فيها اسم واحد مات".. مات عبد الرحمن الأبنودى، من دون أن ترثيه أمه، أو أن يطل برأسه ليؤكد أنه حى.
ليس أقسى على الشاعر من أن يضطر إلى مواجهة شعره، بلا حيلة؛ أن يقول: "إذا جاك الموت يا وليدي/ موت على طول"، بينما يمكث فى انتظاره، محاصرًا، لأسابيع متتالية، بشائعات عنيفة حول رحيله، ثم لا يجد فى نفسه حيلة إلا أن يطل بين الأيام ليقول: "أنا الأبنودى.. أنا حى وبخير"، وما أن يدق الموت بابه –فعلا- "يفتح له"، ليرحل هادئًا وفى صخب، صخب انتظار تكذيبه للخبر.
"الخواجه لامبو مات فى أسبانيا"، لكن الأبنودى المولود فى قنا (1938)، مات بعيدًا منها، فى رحلة جابت به مصر من أقصاها إلى أقصاها، فالشاعر الذى جاء من الصعيد واستقر فى القاهرة المركزية، وحقق جلّ شهرته فيها، اضطرته الظروف الصحية للاستقرار فى محافظة الإسماعيلية (شمالى مصر)، لأن هواءها يناسب رئتيه، فى رحلة مشابهة فى كثير من الأحيان لرحلات "العارفين/الأولياء.
موضوعات متعلقة..
- رئيس اتحاد كتاب روسيا يعزى سلماوى فى وفاة عبد الرحمن الأبنودى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة