نقلا عن العدد اليومى
«بدلتى الزرقا لما أشمرها.. واشتغل بيها يحلى منظرها» هكذا غنى المطرب الراحل عبدالحليم حافظ، خلال أحد الاحتفالات بأعياد العمال، فى الخمسينيات من القرن الماضى، حين كانت الدولة ترى فى طبقة العمال والفلاحين، أساس أحداث النهضة بالمجتمع، بعيدا عن النظرة الدونية لتلك الطبقة التى سبقت قيام ثورة يوليو.
السكن الصناعى، كان أحد الحقوق التى حصلت عليها طبقة العمال، عقب قيام ثورة يوليو، وقد سبق بناء مدن صناعية كاملة إصدار قانون بتخفيض الإيجار بنسبة %20، مما أدى إلى تقليص المعروض من إسكان القطاع الخاص، وظهرت أزمة نقص المعروض عن الطلب عام 1954، حينها قررت الدولة إنشاء شركة التعمير والمساكن، لتوفير حاجة الطبقات المتوسطة والدنيا من الإسكان الاقتصادى والشعبى، إضافة إلى توفير الإسكان الصناعى، وفى عام 1955، صدر قانون رقم 344، بتوجيه الدولة لأعمال البناء والهدم، وبذلك سيطرت على قطاع البناء بشكل تام.
«اليوم السابع» زارت خمس مناطق من مجمعات الإسكان الصناعى، وهى: مساكن الحديد والصلب، ومساكن النصر للسيارات، والمساكن الاقتصادية، ومساكن ناصر، ومستعمرة الدمايطة، ورصدت تدهور حالة بعض المناطق، وتوقف الأخرى عن النمو، فى ظل سياسة غير واضحة للدولة، نحو دعم إسكان محدودى الدخل، وبخاصة الإسكان الصناعى، وقد اعتمدت الجريدة فى جولتها على أرقام ومعلومات موثقة حول تلك المدن، بناء على ما جاء فى دراسة تأثير الصناعات الثقيلة على التجمعات العمرانية.
المساكن الاقتصادية
مستعمرة الدمايطة: مكافأة نهاية الخدمة طرد 300 أسرة
لافتة ضخمة، كتب عليها شركة مصر حلوان للغزل والنسيج، بمنطقة كفر العلو، بحلوان، وسور ضخم، تظن معه أن المدخل المشار إليه، هو مدخل الغزل والنسيج المعروف، إلا أنك بمجرد عبور البوابة تصيبك الدهشة، فالسور يحمى منطقة سكنية، تشبه الريف المصرى خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضى، إنها مستعمرة الدمايطة، مساكن العمال التابعة لشركة حلوان للغزل والنسيج.
وقد تأسست شركة مصر حلوان للغزل والنسيج عام 1927، وكان مقرها فى محافظة دمياط، وفى عام 1949، تقرر نقل الشركة من دمياط إلى منطقة حلوان، لتلافى صعوبات التيار الكهربائى وزيادة تكلفة الإنتاج، وفى عام 1952، أنشأت الشركة مساكن سكنية بهدف استيعاب العاملين بالشركة، ممن تم نقلهم من محافظة دمياط، ولهذا سميت بمستعمرة الدمايطة.
وقد راعوا فى إنشائها أن تشبه بيوت العاملين الأصلية فى محافظة دمياط، لتشجيعهم على الانتقال، وتبلغ مساحتها 135 ألف متر مكعب، وتتكون من 16 مبنى، يحتوى كل مبنى من 4 إلى 8 شقق.
وأصبحت المنازل الآن تضم ثلاثة أجيال من السكان، بواقع ثلاث أسر فى المسكن الواحد، ليصبح بذلك مجموع سكان المستعمرة ما يصل إلى 324 أسرة، وذلك بعد استضافة الأهالى لأبنائهم، هربا من ارتفاع أسعار السكن الخارجى.
وأمام بيت ورثة «محمد الخواجة»، وقفت طاهرة محمود، إحدى العاملات السابقات بالشركة، تشكو من محاولة الشركة نزع ملكية مساكن المستعمرة، حيث حصل العمال على تلك المساكن، دون أوراق تثبت ملكيتهم لها، قائلة: «فى زمنا كان علاقات العمل يربطها نوع من الثقة المتبادلة، يصعب معها الشك فى النوايا».
تقول طاهرة، التى بلغت سن المعاش منذ خمس سنوات، إن الشركة سلمت والدها مسكنه بمستعمرة الدمايطة، فى الخمسينيات من القرن الماضى، مضيفة أن من رفض السكن فى المستعمرة، كان يحصل على بدل سكن يصل إلى جنيه ونصف الجنيه، وهو مبلغ كبير وقتها.
مستعمرة الدمايطة
وتضيف: «السكن وقتها كان ببلاش ودلوقتى عايزين يطردونا لما السكن ولع» مشيرة إلى قضية يتم تداولها فى المحاكم منذ سنوات، بين سكان المستعمرة، وإدارة المصنع، مؤكدة أن أصحاب المساكن أغلبهم على المعاش، وطردهم يعنى تركهم فى الشارع، هم وأسرهم بلا مأوى.
وتتذكر طاهرة تاريخ تعيينها بالمصنع بدقة، والذى يعود إلى عام 1963، بعد أشهر قليلة من وفاة والدها، أحد أمهر نساجى المصنع، ومطالبة إدارة الشركة للعائلة، بتعيين أحد أفرادها بدلا منه، حفاظا على المميزات التى يحصل عليها أبناء العاملين.
وقتها كانت طاهرة تدرس بمدرسة التربية النسوية- وهى مدرسة للاقتصاد المنزلى- والتحقت بإحدى وظائف المصنع الإدارية، تقول طاهرة: «كنت كل 15 يوم شغل أروح للصراف أدى له قرش صاغ ويديلى جنيه»، مشيرة إلى أن راتبها الشهرى، إضافة إلى معاش والدها، كان يوفر لها هى وأسرتها حياة كريمة مناسبة.
وتتذكر طاهرة الوضع المميز لشركة حلوان للغزل والنسيج وقتها، حيث كانت تعد واحدة من أكبر شركات الغزل فى الشرق الأوسط، وقد تراجع دور الشركة بعد ذلك، بالتزامن مع تدهور صناعة الغزل والنسيج فى مصر، ورغم أن طاهرة كانت العاملة رقم 11 ألف بالشركة، فإن العاملين بالشركة الآن، لا يتعدون ثلاثة آلاف عامل.
المساكن الاقتصادية بحلوان
وتعد المساكن الاقتصادية نمطا آخر من الإسكان الشعبى، الذى عمدت الحكومة إلى توفيره، بهدف سد عجز الشركات والمصانع عن توفير مساكن لعمالها وقد أنشأتها الحكومة فى حلوان ويبلغ عدد المساكن الاقتصادية 2460 وحدة بهذه المنطقة، وقد صممت بنظام البلوكات السكنية، متعددة المداخل، والآن تعانى المبانى من تآكل فى الجدران، وانعدام الصيانة، فقد تم تمليكها إلى الساكنين منذ التسعينيات من القرن الماضى، وانسحبت الدولة تماما من المشهد.
المساكن الاقتصادية
ورغم الحرص على ترك مساحات واسعة بين البلوكات، فإن البناء العشوائى قلل من تلك المساحات، فقد عمد ملاك الأدوار الأرضية إلى بناء حجرات خارجية، لتزويج أبنائهم، هربا من أزمات السكن التى لا تنتهى، أو لبناء أكشاك، أو مقاهى.
أما المساحات التى تركت بغرض التشجير، داخل المجمعات السكنية، فقد تعرض أغلبها للتبوير، وحل محل بعضها أكوام من القمامة.
وبداخل منطقة المساكن، نجد عددا من البنايات، التى تم تخصيصها لشركات ومصانع بعينها، كمساكن النصر، التى تتبع شركة النصر، وتشتهر بانتشار مقاهى المعاش بها، حيث يقضى أصحاب المعاش المبكر من شركة النصر أوقاتهم، يعدون الأيام فى ملل.
يقول «خيرى محمد» عامل سابق بالشركة، وأحد ضحايا المعاش المبكر: «كنت من ضمن العمال الذين خرجوا بنظام المعاش المبكر عام 2007، حصلت على مبلغ 50 ألف جنيه من الشركة، ومعاش قدره 145 جنيها، وبدأت بعدها البحث عن وظيفة أخرى»، مشيرا إلى أن الشركة فى بداية عمله بها، كانت تضم آلاف العمال، وعند خروجه على المعاش، كانت تضم 3200 موظف وعامل فقط.
خيرى محمد
يكمل خيرى محمد أن الشركة قامت بتمليك المساكن لقاطنيها، خلال فترة التسعينيات من القرن الماضى، مقابل دفع مبلغ 2750 لكل ساكن، بعدها أخلت الشركة مسؤوليتها عن المساكن.
ويحكى خيرى كيف تغيرت طبيعة المنطقة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، مع التغيرات التى طرأت عى المجتمع، يقول خيرى: «فى البداية كان كل سكان المنطقة يعملون، وكان نادرا ما تجد عاطلا فى المنطقة».
أما الآن فقد تغير المشهد تماما، حيث امتلأت المساكن بجيلين، أو ثلاثة من العاطلين، هم من يثيرون المشاكل فى المنطقة، واتجه بعضهم للانحراف، فظهر تجار البرشام والمخدرات، والبلطجية، ولم تعد المنطقة أمانا، كسابق عهدها.
مساكن الحديد والصلب
«إن إقامة صناعة الحديد والصلب فى بلدنا كانت دائماً الحلم الذى ننظر إليه منذ سنين طويلة، وكنا نعتقد أنه بعيد المنال»، هكذا بدأ جمال عبدالناصر الرئيس الراحل كلمته الحماسية، فى افتتاح مصنع الحديد والصلب، بتاريخ السابع من يوليو لعام 1958، والذى كان يهدف إلى دخول مصر لمجال الإنتاج الصناعى، وتغيير طبيعتها الزراعية.
وقد تم وضع حجر الأساس لمساكن عمال الحديد والصلب، فى نفس عام افتتاح المصنع، وخلال عام 1959، أتمت الشركة بناء 510 وحدات سكنية للعاملين بها، تعرف الآن بمساكن الصلب القديمة، بواقع حجرتين وصالة، وتسمى بلوكات.
مساكن الصلب
يخيم على المنطقة هدوء ثقيل، بسبب طبيعة السكان، الذين ينتمى أغلبهم إلى طبقة أصحاب المعاشات، من الجيل الثانى من مؤسسى المصنع، ممن شهدوا ذروته الإنتاجية، وعاصروا سنوات تراجعه، تحت ضغط نقص الخام، ورفض الإدارات تعيين المزيد من العمال، فى ظل حالة سياسية استمرت ثلاثين عاما، هدفت إلى الخصصة، بدلا من النهوض بالصناعات الوطنية، وتنميتها.
ورغم الحالة الجيدة لمبانى المساكن، فإنها تعانى من الانفلات الأمنى، بسبب بعد المنطقة عن الزحام، وتعرض الأرض الفضاء خلف المساكن والمصنع لسرقة المعدات التى تخزن بها، أكثر من مرة، حتى إن سكان المنطقة باتوا يغلقون أبوابهم على أنفسهم، بعد الساعة الخامسة.
محمود محمد من الجيل الثانى من عمال المصنع، وكان يعمل كفنى أول كهرباء، مسؤول عن صيانة القطارات بالمصنع، قبل أن يصل إلى سن التقاعد، يقول لـ«اليوم السابع»: إنه بدأ العمل بالمصنع عام 1973، وقتها كان العمل لدى مصنع الحديد والصلب فرصة العمر، تماما مثل بقية مصانع القطاع العام، بسبب المميزات التى كان يحصل عليها العامل وقتها، من مرتبات وحوافز وبدلات ثابتة، إضافة إلى الأرباح السنوية، وتوفير سكن قريب، بأحد مساكن المدن العمالية.
محمود محمد
ويضيف محمود: «كنت أعمل بالعنبر الجديد والذى أنشئ خصيصا بهدف خدمة الفرنين «الثانى والثالث»، فى إشارة إلى فرنى مصنع الحديد والصلب، اللذين حصلت عليهما مصر من روسيا، واشتهرا بالإنتاج الضخم، والذى فاق الفرنين الأول والثانى، المجلوبين من ألمانيا.
وقد شهد المصنع فترات من التدهور، بداية من الثمانينيات من القرن الماضى، كما يؤكد محمود، فعند بداية عمله بالمصنع، كان عدد العمال يصل إلى 25 ألف عامل، بينما عند إحالته إلى المعاش، كان عدد العمال لا يتعدى الـ10 آلاف عامل.
مضيفا: كان هناك عدد من العنابر المغلقة، بسبب قلة المواد الخام، والعمالة، بعد أن رفضت إدارة المصنع مناشدة القيادات العمالية لها، استجلاب جيل جديد، يتدرب على يد أصحاب الخبرات القديمة، قبل وصولهم إلى سن المعاش، وترك المصنع.
وعند فتح نظام المعاش المبكر، لعمال القطاع العام، رحل «أمهر الصنايعية» بمصنع الحديد والصلب، ممن حملوا المصنع فوق أكتافهم لسنوات، وظل حال المصنع من سيئ إلى أسوأ، حتى قيام الثورة المصرية، حسب تعبير محمود.
وقد كان محمود شاهدا على تدهور حال العامل المصرى، يقول محمود: «رغم أنى حاصل على دبلوم متوسط فإننى كنت معينا بمرتب ثابت وحوافز وبدلات وأرباح سنوية»، بينما اضطر الشباب من حاملى الليسانس والبكالوريوسات بعدى إلى قبول التعيين فى الشركة بالثانوية العامة والابتدائة، مقابل الحصول على وظيفة ثابتة، لا تخرج عن وظيفة عتال، أو عمال تراحيل.
مساكن العمال بحلوان.. حكايات من دفتر أحوال الصناعة المصرية..أنشأ مصنع حلوان للغزل مستعمرة الدمايطة للعمال.. والشركة تطرد أحفادهم الآن.. والمساكن الاقتصادية تعانى من البطالة والعشوائيات
الخميس، 19 فبراير 2015 09:46 ص
مساكن الصلب
تحقيق صفاء عاشور
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة