وعلى الرغم من أن مصطلحى حروب الجيل الرابع والخامس، هما فى الأساس مصطلحات عسكرية، فإن الإعلام المصرى بدأ تداولهما خلال الأعوام الأخيرة، للدلالة على وجود مؤامرة من نوع ما لإفشال الدولة المصرية، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن تعريف المصطلحين السابقين شهد كثيرا من المغالطة والتشويش، وهو الأمر الذى استوجب العودة إلى المصادر الأمريكية، حيث نشأ المصطلحان السابقان.
الجيل الأول
على شبكة الإنترنت يوجد عدد لا يحصى من المصادر التى تفسر نظرية حروب الأجيال، لكن أغلبها يعود إلى اجتهادات شخصية لمحللين سياسيين ومحققين، وبخاصة فى المصادر باللغة العربية، فيما تم العثور على كتب معدودة، أهمها كتاب أمريكى على موقع «أمازون» بعنوان «الدليل المختصر لحروب الجيل الخامس».
وإذا استسلمنا لفكرة تقسيم أجيال الحروب إلى خمسة أجيال فسنجد أن حروب الجيل الأول فى التاريخ الحديث، تنحصر فى الفترة الزمنية ما بين 1648 و1860، وهى الحروب التقليدية المتعارف عليها، والتى يتم خلالها مواجهة بين الجيشين المتناحرين فى أرض معركة محددة، بتكتيكات حربية تقليدية، وبذلك تدخل حروب القرون الـ17 والـ18 والـ19، ضمن ذلك التعريف.
وقد تزامنت حروب الجيل الأول تلك مع احتلال أغلب الدول العربية، عقب المواجهات بين الدول الاستعمارية، والدولة العثمانية التى كانت تلقب فى آخر أيامها برجل أوروبا المريض، فقد كان الاستعمار ينهش فى الجسد العربى طوال القرون الثلاثة السابق ذكرها، ويمنح خيرات أراضيه للدول العظمى، وبخاصة بريطانيا، الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، والتى نجحت فى احتلال كل من مصر، واليمن، والسودان، والصومال والعراق وفلسطين، والأردن واليمن.
أما حروب الجيلين الثانى والثالث، فقد ظهرت فى فترات زمنية متقاربة، خلال الحرب العالمية الأولى، والتى جرت خلال الفترة من عام 1914، إلى عام 1918، حيث تعرف حروب الجيل الثانى بذلك النوع من الحروب الذى يتميز بضربات استباقية بالمدفعيات والطائرات، بهدف إحداث أكبر نسبة خسائر فى صفوف جيش العدو، ليأتى بعد ذلك دور سلاح المشاة، الذى يسهل عليه تحقيق انتصار خلال نقاط التقاء الجيشين فى أرض المعركة، ويرجع الفضل لدولة فرنسا، فى ابتكار ذلك الجيل من الحروب.
أما حروب الجيل الثالث، فقد طورت بواسطة القوات الألمانية فى الحرب العالمية الأولى أيضا، ولا تعتمد حروب الجيل الثالث على قوة السلاح، بقدر ما تعتمد على عناصر السرعة والمفاجأة والتلاعب العقلى بالخصم، والسعى للوصول إلى عمق العدو وتحطيمه من الداخل، وزرع الجواسيس، بدلا من الاشتباك والتدمير، ولم تؤد حروب الجيل الثالث إلى تغيير التكتيكات الحربية فقط، بل هدفت إلى تغيير الثقافة العسكرية كذلك، حيث باتت المبادرات الفردية أهم من الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر.
حرب العصابات
وخلال عام 1989، وبينما كان حائط برلين يسقط بعد أربعين عاما من تقسيمه لدولة ألمانيا، كتب «بيل ليند»، المحلل السياسى الأمريكى، مقالة بعنوان «تغير أوجه الحرب إلى حروب الجيل الرابع»، موضحا أنه بينما كانت الحروب فى القرون السابقة تعتمد على الجيش والعتاد، والخطط العسكرية المحكمة، فإن الحروب المقبلة ستعتمد على جماعات إرهابية وعصابات وعمليات نوعية، لا تحتاج إلى أرض المعارك التقليدية، ولا لنقاط التقاء الجيشين المتصارعين.
وللتأكيد على وجهة النظر تلك، أورد «بيل ليند» تقسيمات محددة للحروب خلال القرون الماضية، وأكد أن هناك أربعة أجيال من الحروب، وأن كل جيل منها، كان يهزم الجيل الذى سبقه، بسبب تطور تكتيكاته، والتى تتزامن مع التطور التكنولوجى، وبينما كانت الأجيال الثلاث الأولى من الحروب، تعتمد على ساحات المعارك فى البلدان المتناحرة، باتت حروب الجيل الرابع لا تحتاج إلى ساحات قتال.
فى عام 2006، كتب «جون روب»، الطيار السابق فى وحدات العمليات الخاصة بالجيش الأمريكى، مقالا حول الفرق بين حروب الجيل الرابع، وحرب العصابات التقليدية، والتى حققت نجاحا فى مواجهة الجيوش النظامية وبخاصة فى دول أمريكا الجنوبية.
يقول «روب»، إنه على السطح نجد أن حروب الجيل الرابع تتشابه مع خصائص حروب العصابات التقليدية، المعروفة من حيث التركيز على تشتيت الخصم وإنهاك قواه، والقدرة على التكيف مع الأوضاع على الأرض، مهما كانت سيئة، مع إمكانية تلقى الإمدادات الحربية بشكل غير مركزى، إلا أن حروب الجيل الرابع تركز أيضا على العامل الثقافى والمعرفى بنقاط قوة العدو، لتحويلها إلى نقاط ضعف يسهل مهاجمتها، والتسبب فى خسائر فادحة، مثال على ذلك أحداث الـ11 من سبتمبر، حين تم استخدام أحد رموز القوة الأمريكية، وهما برجا التجارة العالميان، فى ضرب الدولة نفسها بتفجيرهما بطرق غير تقليدية، وإحداث خسائر فادحة.
ويذكر المحللون أن حروب الجيل الرابع توصف بأنها طويلة الأمد، ويمكن أن تمتد إلى أجيال، حيث تتعمد الإضعاف المستمر للعدو باستخدام كل وسائل الضغط المتاحة، من حصار اقتصادى وضغط دولى وإشاعات وتمويل لجماعات ضغط، سواء كانت سياسية أو مسلحة، وكل ذلك يحتاج إلى عدة سنوات، حتى تتم النتيجة المرجوة.
ويتطابق الطرح السابق مع ما حدث فى العراق وليبيا وسوريا وغيرها من الدول العربية، التى لم تغامر القوات الدولية بقصفها، قبل إبراز مدى خطورة الوضع بداخلها على الدول المحيطة والمدنيين، ففى حالة العراق تم الترويج لوجود أسلحة دمار شامل، وهو الأمر الذى فشلت القوات الأمريكية الغازية فى إثباته على الأرض.
غزو العراق
وفى مقالة للكاتب الأمريكى «وليم لاند»، نشرت بتاريخ 2004، ذكر أنه كان من ضمن الخبراء العسكريين، الذين قاموا بتطوير نظرية حروب الجيل الرابع، والتى لمست أهميتها القوات الأمريكية، خلال حربها فى أفغانستان، حين فشلت فى اختراق البيئة الوعرة لجبال «تورا بورا»، بسبب القصور المعرفى حول طبيعة البلاد، بينما وجهت لها القاعدة، وطالبان، ضربات موجعة من مخبئهم، دون أن يتعرضوا هم أنفسهم لإصابات تذكر.
وأضاف أن الغزو الثقافى لبلد ما فى مرحلة من المراحل، يعد أصعب من الغزو العسكرى لنفس البلد، وضرب مثالا على ذلك بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تستطع إخضاع العراق لسيطرتها، إلا بعد القبض على الرئيس العراقى صدام حسين، بطريقة مذلة، تظهر لمن يحارب فى صفوفه، أن المقاومة صارت بلا جدوى.
وبرغم ظهور مصطلح حروب الجيل الخامس فى الغرب منذ بداية القرن الواحد والعشرين، فإن المصطلح لم يتم تداوله فى مصر، ولم يبرز بشكل واضح إلا خلال السنوات التى تلت قيام الثورة، فى إشارة إلى محاولات عدد من الدول استخدام وسائل التواصل الاجتماعى والدعاية الإعلامية لنشر أخبار كاذبة عن الدولة المصرية، بهدف إسقاطها.
وخلال شهر يوليو الماضى، ذكر الرئيس عبد الفتاح السيسى المصطلح المشار إليه، خلال كلمة ألقاها أثناء زيارته لشمال سيناء، جاء فيها أن «مصر تتعرض الآن لما يسمى بحروب الجيل الخامس، والتى تستهدف هز إرادة المصريين، وزعزعة الاستقرار»، وأضاف أن «هذه الحروب تُستخدم فيها وسائل الاتصال والمعلومات؛ لترويج معلومات مغلوطة، وتقديم صورة غير حقيقية عن مصر».
وقد أعطى الرئيس بكلمته السابقة مفهوما مبسطا لحروب الجيل الخامس، التى ما زالت تلقى جدلا حول تعريفها لدى المحللين السياسيين، فهناك من يحصرها فى كونها حرب المعلوماتية والدعاية والإعلام، والحروب التى لا تحتاج إلى احتكاك مباشر مع العدو فى أرض المعركة، فى حين يرى فيها البعض أنها الحروب التى تستخدم التكنولوجيا العسكرية الحديثة، فى ضرب مواقع العدو كالطائرات بلا طيار وغيرها، من الأسلحة التى لا تخلف أدنى خسائر بشرية من جهة المعتدى.
ويرى المحلل العسكرى الأمريكى «راى البرمان»، أن حرب الجيل الخامس تعتمد فى الأساس على مهاجمة العدو من السماء، دون الاشتباك على الأرض، واستخدام خطط التلاعب الزمانى والمكانى، وإيهام العدو بأن أى مقاومة لا جدوى منها، وبالتالى يستسلم العدو دون قتال.
فى حين ذكر المحقق «توماس برنت»، فى تقرير له، نشر بمجلة التايمز الأمريكية، أن أهم ما يميز حروب الجيل الخامس القدرة على تعطيل دفاعات العدو ووعيه بالخطر، وأنه خلال تلك الحروب، يمكن أن تستخدم الحرب البيولوجية أيضا، لإضعاف العدو، ومنعه من إنتاج غذائه، وأعطى مثالا على ذلك بما حدث خلال عام 2003، حين انتشر مرض جنون البقر، الذى أدى إلى أغلاق أسواق التصدير أمام الدول التى اكتشف على أرضها المرض، وإعدام آلاف الرؤوس الحاملة للمرض.
ويمكن تطبيق نفس المفهوم السابق على فيروس أنفلونزا الطيور، والذى يعده البعض من ضمن الحرب البيولوجية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذى تسببت فى إعدام نسبة لا بأس بها من الثروة الداجنة فى مصر، خلال السنوات العشر الماضية، الأمر الذى تسبب فى إفقار المزارعين، ونشر الذعر بين المستهلكين، فضلا عن إغلاق أبواب التصدير.
الثورات الملونة
وخلال شهر يوليو من العام الماضى، عقدت وزارة الدفاع الروسية مؤتمرا بعنوان «الجوانب العسكرية والسياسية للأمن الأوروبى»، حيث تم استخدام مصطلح جديد وهو «الثورات الملونة»، بمفهوم يتفق مع حروب الجيل الخامس، كونها الاحتجاجات والمظاهرات التى تتسبب فى الإطاحة بالأنظمة القمعية، واستبدالها بأنظمة جديدة ديمقراطية، أو على الأقل غير معادية للأنظمة الغربية.
وأعطى الخبراء المشاركون فى المؤتمر أمثلة على ذلك بالثورة التى حدثت فى جورجيا عام 2003، والثورة البرتقالية فى أوكرانيا، وكذلك ما حدث من ثورات الربيع العربى، ويعلل الجانب الروسى وضع الثورة الأوكرانية ضمن الثورات الملونة، بسبب التدخلات الأمريكية والأوربية الواضحة، للإطاحة بالنظام الأوكرانى، والتى انتهت بالاستفتاء حول انفصال شبه جزيرة القرم، وضمها للجانب الروسى.
وهل كان انقسام السودان بعيدا عن مفهوم حروب الجيل الخامس؟ حيث استغلت الدول الغربية، النزعة الانفصالية لدى جماعات الجنوب، ودعمتها، حتى اضطر نظام البشير إلى الموافقة على استفتاء، انتهى بانفصال الشمال عن الجنوب، الأمر الذى تكرر فى محاولات تقسيم دول العراق وليبيا وسوريا، بطرق غير التقسيم الاستعمارى التقليدى، الذى شهدته المنطقة خلال القرنين الـ19، وتسبب فى وضع حدود جغرافية بين الدولة الواحدة، كما حدث فى بلاد الشام.
وعلى الرغم من الجدل الذى يثار بين الحين والآخر حول ثورة 25 من يناير، فإن النظام الحالى يعترف بها كثورة شعبية، ولا يضعها ضمن مخططات حروب الجيل الخامس، بدليل إدراجها فى الدستور، واعتبار تاريخ اندلاعها ضمن الاحتفالات والأعياد الرسمية بالبلاد، وذكر الرئيس عبد الفتاح السيسى لها، خلال خطاباته السابقة. ولكن المؤامرة تتمثل فيما تبع الثورة من فتن، وانتشار للعديد من المعلومات المغلوطة غير الموثقة، على شبكات التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام، بهدف إحداث ردود أفعال سريعة غاضبة على المستوى المحلى والدولى. من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث عند سقوط الطائرة الروسية داخل الأراضى المصرية، والاستنتاج السريع غير المبرر من قبل الإعلام البريطانى والأمريكى، بأن الطائرة تم إسقاطها بفعل إرهابى، وليس بسبب عطل فنى بها، رغم إن اللجنة المسؤولة عن التحقيق حول أسباب سقوطها، لم تكن قد بدأت عملها بعد.
فى السياق نفسه، نشرت جريدة «الإندبندنت»، تقريرا مطولا عن ضعف الإجراءات الأمنية فى مطار شرم الشيخ للدلالة على وجود حادث إرهابى تسبب فى إسقاط الطائرة الروسية، ودعمت الصحيفة التقرير بصور التقطها مراسل «بى بى سى» فى مصر، لأحد موظفى «الخدمة السريعة» بمطار شرم الشيخ، وهو يتقاضى رسوم الخدمة المعمول بها بعدة مطارات عالمية، ومن بينها مطار دبى، وزعمت أنها تظهر رجال أمن يتقاضون «رشوة» لتسهيل مرور سياح أجانب وتخطيهم الإجراءات الأمنية.
فى السياق نفسه يعتبر نقل الإعلام الغربى لأعداد الجرحى والشهداء من جيش المصرى وفى المعارك ضد الجماعات الإرهابية فى سيناء، من قبل تلك الدعاية، فأعداد الخسائر المذكورة كثيرا ما تحمل نوعا من المبالغة، فى ظل صعوبة وصول أى من وسائل الإعلام تلك إلى مناطق الصراع، بسبب انقطاع الطرق وخطورة الأوضاع هناك.
ولكن كيف يمكن هزيمة العدو الخفى فى حروب الجيل الخامس؟، سؤال أجاب عنه «دافيد اكس»، المراسل الحربى الأمريكى، فى مقال له بنفس العنوان، مؤكدا أن الحل يأتى فى المقام الأول فى عدم الرد فى المقام الأول، وعدم الدخول فى معارك وحروب معلوماتية ومعرفية فى المقابل، تمنع النظام من التركيز فى الهدف الأهم، المتمثل فى التطور والتنمية الاقتصادية ورفع مستوى معيشة المواطن ومراعاة معايير حقوق الإنسان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة