- أردوغان هاجم الأمم المتحدة بعد الظهور الأول لـ"السيسى".. واصطدم بحفاوة استقباله والترحيب بكلمته أمام الدورة الـ70
ـ جولات "السيسى" الخارجية كبدت أنقرة 4 مليارات دولار وعطلت مشروع "تركش ستريم" النفطى بين أردوغان والدب الروسى
ـ قبل أسابيع من الانتخابات التركية المبكرة.. مغامرات أردوغان تهبط بـ"الليرة" لأدنى مستوياتها أمام الدولار.. ومعارك "ديار بكر" تقتل مئات الجنود الأتراك
لن يخطئ الرئيس التركى رجب طيب أردوغان رائحة البارود والغاز المسيل للدموع، إذا ما أطل من شرفة مكتبه داخل قصره "الأبيض"، الذى بلغت تكلفة بنائه على غابات "أتاتورك" فى العاصمة أنقرة 600 مليون دولار. لن يستطيع أن ينكر الاحتجاجات الرافضة لسياسات حزبه الحاكم، والتى تؤكد أن الأتراك لن يوقعوا على "بياض"، وأن ما حققه من إنجازات اقتصادية بداية عهده لن يكون مبرراً لصمتهم على مغامراته وفساد حزبه الذى يفقد تركيا حليفاً تلو الآخر، بعد إيواء جماعة إرهابية تبث سمومها فى مصر والعديد من دول المنطقة.
يشاهد أردوغان الحرائق وهى تأكل حدوده الجنوبية الشرقية، فى سلسلة اشتباكات مع حزب العمال الكردستانى مرشحة للتصاعد والاستمرار. ويتابع أنهار الدماء التى تشق طريقها نحو تركيا من خارج الحدود وتصل إلى مسامعه هتافات تطالب بـ"تغيير النظام".. فلم يعد المواطن التركى ثائراً ضد وزير أو لقضية، بعدما رأى الوافد الإخوانى يقتسم معه قوت يومه، ويسكن أفخم الفنادق وأرقى الأحياء.
عام وبضعة شهور كان كافياً لأن يدرك الرئيس التركى أن أصابعه التى رفعها مشيراً بعلامة "رابعة" كانت باهظة الثمن سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، يدرك الآن أن المنابر الإعلامية التى كفلها للإخوان فى إسطنبول وأنقرة، أحرجته أمام دوائر عربية وأوروبية عدة، ووضعت تركيا فى قائمة الدول الراعية للإرهاب والتحريض على العنف والقتل والتخريب.
يتأمل أردوغان القاهرة ملياً، يشاهد ما تحققه من إنجازات اقتصادية، وما تحرزه من تقدم فى حربها ضد الإرهاب. يدرك أنه تسرع كثيراً فى انحيازه للإخوان وإنكاره حقيقة مشهد 30 يونيو وما تلاه. يتابع تحركات الرئيس عبدالفتاح السيسى، وجولاته الإقليمية والدولية، ويشاهده فى الأمم المتحدة متسلحاً بقوة الأمل مرة، وبقوة العمل فى المرة التالية وكيف كان استقباله حافلاً، وخطابه موفقاً. يدرك أردوغان الآن أن مصر أصبحت حاضرة فى كل قضايا وملفات الإقليم، ومقعدها على طاولة المجتمع الدولى لا تخطئه عين.. فلا حل للأزمة السورية دون مصر، ولا مواجهة عربية ـ سنية للمد الإيرانى فى المنطقة دون مصر، ولا عودة لمفاوضات السلام مع الاحتلال الإسرائيلى دون رعاية مصر.
عاجزاً يتأمل السلطان شرعيته وهى تتساقط كحبات عقد منفرط، ويتابع كيف كان السيسى الذى حاربه بـ"أربع أصابع" فى الأمس حائزاً لشرعية الثورة والصناديق، أصبح اليوم حاملاً لشرعية التنمية والمشاريع الكبرى. يتابع تحركاته ويطالع كيف اعتراف المجتمع الدولى بشرعية الثورة المصرية، بعدما انفض غبار الإخوان، وكيف اختارت تركيا الدخول طواعية فى دائرة العزلة.
التقارير الرسمية وغير الرسمية تلاحق أردوغان، وإعلامه يصدمه بالحقائق.. 3.8 مليار دولار تخسرها تركيا فى السوق الروسية، هكذا علقت وكالة جيهان التركية للأنباء على زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الأخيرة إلى روسيا، مشيرة إلى أن الاتفاق الذى تم توقيعه بين موسكو والقاهرة بشأن استيراد روسيا حاصلات زراعية من مصر، يخفض من حصة تركيا من توريد حاصلاتها إلى 4 مليارات دولار بدلاً من 7.8 مليار دولار.
وفى الوقت الذى شهد الرئيس السيسى توقيع اتفاقيات بين شركة "روس نفط"، و"جاز بروم" الروسيتان والحكومة المصرية، لمدة 5 سنوات، على هامش الزيارة نفسها، خرج وزير الطاقة التركى "تانز يلدز"، ليعلن أن استيراد بلاده من الغاز يكبدها 4 مليارات دولار إضافية بعد التراجع الحاد لقيمة الليرة أمام الدولار، مشيراً إلى أن مبيعات الغاز الروسية إلى تركيا انخفضت 8% على مدار الأشهر الست الأخيرة، وأن مشروع "تركيش ستريم" النفطى، الذى كان مقرراً أن تدعمه روسيا معطل، دون أن يوضح الأسباب.
لم يعد أمام أردوغان إلا الحسرة.. يتأمل ما آلت إليه بلاده، ويفكر فى موارد آمنة وبديلة للنفط الروسى الذى غيرت مساره حكومة موسكو نحو القاهرة، فلا يجد بديلا إلا القاهرة بعدما أعلنت شركة "إينى" الإيطالية اكتشاف أكبر حقل بترولى فى المياه المصرية بالبحر الأبيض المتوسط. وبعدما أحكم تنظيم داعش وجماعات العنف والإرهاب سيطرتها على منابع النفط فى سوريا والعراق.
يكتوى السلطان بنيران الإرهاب، فيما تستعيد سيناء عافيتها ويحرز الجيش المصرى تقدما جديداً فى حربه ضد جماعات العنف المسلح. يجنى أردوغان ثمار تنكيله بالأقليات، وتحصد الحرب الأهلية أرواح المئات فى مدينة ديار بكر الجنوبية الشرقية، جراء الاشتباكات الدائرة بين القوات التركية ومسلحى حزب العمال الكردستانى. الفوضى تعم أرجاء تركيا التى كانت بالأمس قوة اقتصادية واعده. معالم الدولة تندثر والنظام يفقد سيطرته على مقاليد الأمور، ويعجز أردوغان حتى عن حماية رجاله ومواطنيه داخل الحدود وخارج الحدود، بعدما تمكن مسلحون من اختطاف "جان بولاط" أمين حزب العدالة والتنمية، فى بلدة مازكيرت جنوب شرق تركيا من داخل سيارته، وأضرموا فيها النيران، نهاية أغسطس الماضى، فضلاً عن اختطاف 18 عاملاً تركيا فى بغداد منذ أسابيع، وإعلان جماعة شيعية مسلحة تسمى نفسها "فرق الموت" تبنيها الحادث.
بخطى ثابتة تبنى مصر مؤسساتها. يفرض رئيسها سطوة الدولة دون عنف، ويعفو عن شباب الثورة دون ضعف، فيما يحارب أردوغان على جبهات عدة هرباً من مصير "سوريا والعراق". يحاول السلطان العثمانى الفرار من شبح الانهيار ويضطر مرغما على التنازل ويقبل بحكومة ائتلافيه تضم "حيدر كونجا" و"مسلم دونجا" عضوى حزب الشعوب الديمقراطى المؤيد للأكراد فى منصبى وزير شئون الاتحاد الأوروبى ووزير التنمية، لكن دون جدوى.. التنازلات لم تحد من الاحتجاجات، ليستنفذ أردوغان أوراق اللعب من بين يديه، ويلقى بورقة الانتخابات المبكرة فى نوفمبر المقبل، ويحبس أنفاسه انتظاراً لحكم الصناديق.
فى صمت دون مزايدة تستقبل مصر لاجئين من كل أجناس الأرض وشتى بقاعها، تحارب فى مجالات التنمية لتوفر عيشاً كريماً لمواطنيها والوافدين، فيما توصد تركيا أبوابها فى وجه الجميع.. لا وقت الآن لسفن فك حصار عن غزة، أو للحديث عن الطفل السورى الغريق إيلان. لا وقت للدموع باردة فى مخيمات اللاجئين.. تركيا التى كانت ملاذا بالأمس، أصبحت الآن مصدٌرة للهاربين من ويلات الحروب الدائرة على امتداد حدودها، والسلطان العثمانى يحصن قلاعه جيداً خوفاً من الجوار ويشيد بيديه أسوار سجنه ويدشن جداراً خرسانياً بطول 45 كيلو مترا مع سوريا، ويغلق حدوده مع كردستان العراق.
يدرك أردوغان أن الجغرافيا قاسية. لم تمنح تركيا القدر البسيط من الانسجام أو التناغم مع الآخر، تحدها 8 دول، و3 بحار. تشترك فى حدودها مع دولتين عربيتين ـ سوريا والعراق ـ وهى ليست عربية. تجمعها الحدود الشمالية الشرقية بجورجيا ودولاً أوروبية، وهى ليست أوروبية. ومن الشرق، تقع إيران الشيعية، وهى ليست شيعية. يتأمل أردوغان الجغرافيا مجدداً. يشاهد أنهار الدم تشق طريقها نحو حدوده المفتوحة، جارا الجنوب غارقان فى فوضى الإرهاب وغياب كل معالم الدولة، سوريا والعراق صارتا كرة لهب عصية على جهود المجتمع الدولى للاحتواء، وتأكلان بنهم وجنون دول الجوار.
الجار الإيرانى يراقب ويترصد.. يدرك آخر سلاطين العثمانيين أن طهران تصدر الثورة والفوضى معاً، لم ترضى أن تكون مجرد دولة، ولن تقبل بأقل من خليجاً فارسياً شيعياً. ولن تسمح بأى عرق أو مذهب يجاورها النفوذ على الحدود. يعلم أردوغان علم اليقين أن الغرب الذى رفض عضوية بلاده فى الاتحاد الأوروبى بالأمس، والمتحالف مع إيران اليوم، لن يرضى بأقل من أن تكون تركيا رجل أوروبا المريض مرة أخرى، ويمهد الطريق لإقامة دولة للأكراد على أطرافها وقطع من حدودها.
يعلم أردوغان أن زمام الأمور ينفلت، وأوراق اللعب تنفذ. يدرك أن تركيا التى كانت لاعباً قوياً فى الإقليم أصبحت ملعباً وساحة للاستخبارات الجميع.. يعود السلطان إلى شرفه قصره الأبيض، محاصراً برائحة البارود والغاز المسيل للدموع.. يتأمل ما بدده من إنجازات، ويشاهد كيف استعار من كتب التاريخ، النهايات الأسوأ لنظام حكمه. وكيف أنفق ملايين الدولارات فى حربه الخاسرة مع ثورة 30 يونيو.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة