" أبى الحبيب.. أحبك كثيرا.. أعلم أنه فى عالمك الجديد لا تقرأون الخطابات المكتوبة ولكنك عودتنى أن أكتب إليك وتكتب إلى حتى أصبحت كتابة الخطابات بالنسبة لى هى خير وسيلة للتعبير والتواصل مع من أحب".
كتب "آدم" هذه الكلمات ثم استوقفه صوت الرعد فى هذه الليلة الممطرة، ليتأمل كم كان دائما يخشى هذا الصوت ويفزعه حتى أنه كثيرا ما كان يخجل من رد فعله تجاه صوت الرعد أمام الآخرين ولا سيما الفتيات.. لكن ما فعله صوت الرعد بآدم الآن لم يتجاوز أنه جعله يتوقف لوهلة عن الكتابة، وينظر تجاه الشباك ليبتسم ثم يعاود مرة أخرى كتابة ما كان يكتبه.
"آدم" شاب فى أواخر العشرينيات من عمره، تركه أبوه منذ أن كان فى السابعة من عمره للعمل بإحدى دول الخليج العربى، واعتاد الأب أن يراسل ولده بالخطابات منذ أن سافر إلى أن توفى الأب تاركا "آدم" يتيمًا فى الخامسة عشرة من عمره.
نعم.. "آدم" يكتب الآن خطابا إلى والده المتوفى بعد انقطاع الخطابات بينهما منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما أى منذ رحيل الأب إلى العالم الآخر.
كان آدم يعشق أباه، الذى اقتصر التواصل المباشر بينهما على السبعة أعوام الأوائل فى حياة "آدم" وعلى شهور الإجازات القصيرة خلال الثمانية أعوام الأخيرة فى حياة الأب.
عاود "آدم" كتابة الخطاب وقد افترش أمامه على المكتب مجموعة من آخر الخطابات، التى أرسلها إليه والده سلفا.. كتب "آدم":
لقد علمتنى يا أبى أن أحاول دائما أن أطرد مخاوفى وأطرحها بعيدا عن تفكيرى.. طالما فشلت يا أبى فى أن أفعل ذلك، وكنت كلما حاولت طردها عاودت هجومها على وكأنها تتلذذ بمضايقتى.. كنت دائما لا أستسلم أبدا لها وأحاول قدر الإمكان تجاهلها حتى لا تهزمني.. علمتنى دروسا كثيرة يا أبى ولم تكن الحياة بأبخل من أن تعلمنى دروسا أكثر.
أبى.. أعلم أنك طردت مخاوفك كثيرا.. فهل جربت يوما أن تطاردها؟
نعم.. تطاردها.. لقد قررت ألا أطرد مخاوفى بل أطاردها.. حينما تطارد مخاوفك لن تهزمها فقط، بل ستكتشف العالم الذى ستقودك إليه وهى تهرب منك.
نحتاج فى الحياة كثيرا من الجنون وكثيرا من الشجاعة نقتحم بها عوالم جديدة لم نجرؤ يوما على التفكير فى دخولها.. نحتاج أن نجرب يوما أن نلق بأنفسنا فى قطار لا نعلم وجهته مسبقا.
نحتاج أن نحب أكثر ونخاف أقل.. نحتاج أن نحرر أنفسنا من قيود خفية تحرمنا من أن نشعر بالسكينة فى حضرة أشد المخلوقات ضراوة وخطورة.
مخاوفى لم تكن دائما عدوًا.. أحيانا تكون صديقا يريد أن يدعونى أن أركض خلفه ليقودنى إلى أشياء لم أكن لأكتشفها أن امتنعت عن مطاردته واكتفيت بغلق أبوابى فى وجهه معتقدا أنى بذلك أحمى نفسى من الفشل وأتقدم إلى النجاح.
أبى الحبيب أردت فقط أن تشاركنى ما توصلت إليه وأن أطلعك على فلسفتى الجديدة فى التعامل مع مخاوفى التى طالما نصحتنى أن أطردها لأحمى نفسى من الفشل.
وفى الأخير أقول لك إننى أتمنى حين يصل قطار حياتى إلى عالمك أن يعوضنى الله بقربك عن سنوات حرمانى منك فى العالم الزائل.
ابنك المخلص
آدم
انتهى آدم من كتابة خطابه ولم ينته بعد الرعد من تسبيحاته.. وضع آدم خطابه مع خطابات أبيه القديمة فى درج المكتب ثم تقدم إلى الشباك منتشيا بصوت حبات المطر تطرق شباكه ففتح الشباك واندمج يتسابق مع الرعد فى التسبيح.
نشوى رجائى السماك تكتب:هل جربت يومًا أن تطاردها؟
الأحد، 11 يناير 2015 10:10 م
ورقه وقلم أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة