شيرين ماهر تكتب: مطلوب إنسان..!

السبت، 29 نوفمبر 2014 08:07 م
شيرين ماهر تكتب: مطلوب إنسان..! أطفال فى حضانة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل هو طلب مشروع فى تلك الأيام أم أنه يثير السخرية والاندهاش ؟...أخاله الطلب الوحيد الأكثر شرعية فى وقت ضَنَت علينا انسانيتنا بظهور جلىَ على مسرح السلوكيات. كادت تختفى سمات أصيلة فى الشخصية المصرية وأهمها تلك البصمة التى لا تُنسَى وسرها ببساطة إنك " انسان ".تُرى هل تعثرت الفِطرة المصرية التى دائماَ ما تجنح الى العاطفة فى شتى مناحيها أم أختلت بوصلة الأحساس بداخلنا بعد أن كانت تهدينا لصحيح الأفعال وأرقاها ؟

سأقص لكم موقفاً عصف بى ودفعنى للمزيد من التأمل فى دواخل النفس البشرية، حيث كنت أعانى سائقاً فظاً غليظاً يبطش بالذوق العام لكل من عبأهم بسيارته من أطفال المرحلة الإبتدائية - ومن بينهم ابنى الأكبر- اثناء اصطحابهم الى المدرسة، وإذا بى أعقد عزمى ألا أُواصل معه خاصة مع تضررى من تركيبته العامة و تأثيره سلباً على سلوكيات من معه من أطفال.

وقد ساقتنى الأقدار إلى التعرف على رجل فى خريف العمر بالمعاش يصطحب حفيديه بسيارته الأنيقة الى المدرسة التى بها ابنى الأكبر، ولحسن طالعى أنه كان يقطن بالشارع المجاور لمنزلى.. واتفقنا سريعاً على أن يأخذ ابنى مع احفاده الى المدرسة ، وانسجمنا نظراً لتطابق التركيبة بل ولتفرد شخصيته فكان يتعامل مع الأطفال بنفس حنوه مع أحفاده، كان عطوفا....حامياً...ناصحاً..صادقاً. رأيته دوماً باسم الثغر، حازم الإطلالة ، حانى النظرة ، كانت تتجسد به الأبوة كما يجب أن تكون !

ومن فرط احساسى بأنه لن يتكرر صرت أخشى موته المباغِت ، فقد تجاوز السبعين ربيعاً ، ولكنه يحتفظ بملامح طفولية ضاحكة زاد من براءتها طيب خصاله وسماحته الداخلية. كان لتحية الصباح عنده خصوصية واضحة ، فدائماً ما يحث كل الأطفال معه على إلقائها فى إقبال.. كان يبثهم تربية يسيرة ومحبة خالصة مستشعراً عن يقين مسئوليته تجاه كل منهم.

وبالطبع فى العام الثانى أودعته ابنى الأصغر دون أدنى تفكير وكان عامه الأول برياض الأطفال.كنت أخشى ألا يستطيع التعامل معه نظراً لكبر سنه وعدم احتماله صخب هذا السن وتكبد اعباءه ، ولكن على العكس مما توقعت صارا صديقين حميمين، واستشعرت سعادة بالغة من هذا التوافق الجميل الذى حدث بينهما لدرجة جعلت ابنى حريصاً كل الحرص على أن يحظى بثنائه اليومى ، بل ويفاخر به مزايداً على كل من معه من اطفال.
كانت الأمور أكثر من رائعة ، حتى بٌلِغت بوفاة ورحيل هذا الرجل " النبيل". وإذا بى أرى كابوسى أمامى يتحقق وقد رحل هذا " الانسان ".. رحل فى سكينة وترك خلفه مساحة شاسعة لدى اولادى واحفاده وكل من عرفوه ، لينتَحِب الجميع فى رثاء بائس.

وظلت ثقيلة تلك الحقيقة..كيف أُبلِغها لصغارى ؟ وقد رافقهم صباحاً ثم انقضت سويعاته المتبقية ظهراً ليأفُل نجمه الأخير ليلاً دون معاودة الإشراق عليهم فى صباح جديد. وقد أوجعنى كثيراً ابنى الأصغر عندما هاجمنى سائلاً : كيف لا تزورين " جدو" ؟ أريد محادثته والإطمئنان عليه. فلم يكن لى من سبيل سوى ابلاغه بأنه مريض ، وعندما داهمته بعد أيام "ملامح" شخص أخر يستقله إلى المدرسة ، انهار باكياً ، رافضاً الذهاب من دونه ، وبعد اقناعه بصعوبة أنها فترة مؤقتة حتى يطيب " الجِد العليل " ، لم يكف عن عقد المقارنات منتظراً عودة الغائب !

غرقت فى التفكير العميق والشديد....ماذا فعل هذا الرجل الكهل بقلوب صغيرة كتلك؟..كيف استحوذ على مشاعرهم لهذه الدرجة وكأن بينهم صلة دم وأكثر؟ كيف يرفضون مواصلة روتينهم الحياتى بدونه وكأنه شرطاً لأن ينتظم معه إيقاع الحياة ؟
وجدت الإجابة أبسط مما انتظرت. إنه انسان ! يتعامل بآدميته قبل أى شيء أخر. ربطته بالأطفال مودة وحميمية كرستها ساعات منتظمة يقضونها سوياً كل يوم برفقة الطريق. فماذا لو تأملت أن يكون " المعلم..انسان "، " الجار.. انسان "، "الزميل.. انسان "، " الطبيب.. انسان " ؟ ماذا لو اقترنت كل العلاقات إقتراناً أبدياً ولصيقاً بوصف " انسانى " ؟
ولكن هيهات لمعجمنا الحالى وما يعج به من مترادفات أخرى مزعجة ! لقد انحدرت دنيانا بشدة نحو قاع جاف ضَحلت به عذوبة الإنسانية.. وصار يمتلىء بصخور المنفعة وعوالق المتاجرة وشوائب اللارحمة ورواسب اللانتماء..
هل مازال هناك من ينتمى لانسانيته فى قناعة المستوثق ؟ انهم قلة قليلة يا سادة ! عذراً فأنا لا أنكر وجودية " الإنسانية " ولكنى أقِر بوشوكها على " الإنقراض " واقترابها من الإنزواء فى هَجر ظالم ، فصارت بأمس الحاجة الى محميات طبيعية عسى أن ننقذ ما يمكن انقاذه ، وإذا نظرنا الى جيل يتعثر بين إرهاف وجمود... انتماء وجحود لأدركنا حجم الخطر المحدق.
فأنا أشهق ثائرة فى صمت يتلمس الإستيعاب " اغيثوا انسانية تشكو الإغتراب، وارفعوا شارات " مطلوب انسان " فى كل مكان حتى يعود الزمان يجود علينا بالرضا ، ولنتصالح معه قبل أن يلفُظنا من رحمته ، فإذا ما بخلنا عليه بـ " انسانيتنا" بخل علينا هو الأخر بـ " صَفحِه " !








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة