هى سياسة مصرية قديمة وشائعة وشهيرة جداً.. أن نبحث عن أى شىء ضاع منا هنا تحت عمود النور حيث الرؤية واضحة وممكنة وليس فى الظلام حيث ضاع هناك ما نبحث عنه.. وتصبح النتيجة المتوقعة فى كل مرة هى أننا أبداً لا نجد ما نبحث عنه ولا نستعيد أى شىء ضاع منا ولا نحن ننتفع بالنور الذى نجده أمامنا لنهرب من الظلام الذى يطاردنا.. ولن أطيل عليكم كلاماً يحوى شروحات وأمثلة.. فقط أطلب منكم أن تلتفتوا وتبحثوا داخلكم على المستوى الشخصى وحولكم على المستوى العام عن ألف مثل قمنا فيه بالبحث عن الأشياء الضائعة بالقرب من عمود النور وليس فى أى منطقة حقيقية مظلمة.. وواثق أن كل واحد منا قادر على الإتيان بعشرة أمثال على الأقل.. ولكننى هنا سأضرب مثلاً واحداً فقط أتوقف عنده وأمامه كثيراً وطويلاً.. وهو أزمة تخفيف الأحمال وانقطاع التيار الكهربائى عن كثير من البيوت والأحياء والمدن والقرى.. ففى هذه الحكاية.. التيار الكهربائى هو الذى ضاع منا.. بكل ما يعنيه ذلك من تعطيل لحياة لم تعد فيها الكهرباء من الكماليات ولم يعد الكمبيوتر والتليفزيون مجرد ترف وترفيه.. وبكل ما يشير إليه ذلك من زيف كل ما قيل لنا بشكل متكرر وملح ومزعج عن البنية الأساسية واكتمالها والحاجات الأساسية وتوفيرها وعن النهضة المصرية التى لا يراها الحاقدون على النظام والكارهون للاعتراف بكل ما حصلنا عليه من نعم وأفضال ومزايا.. المهم أن التيار الكهربائى ضاع منا.. فأين ذهبنا للبحث عنه.. لم نذهب إلى محطات الكهرباء.. ولا إلى وزارة الكهرباء ومسؤوليها.. نسأل ونحقق ونحاول أن نفهم ونعرف ونجد الذى ضاع منا.. وإنما جرينا كلنا إلى أقرب عمود نور.. وكان العمود الذى وجدناه هو إسرائيل.. وتصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل.. وبسرعة تحدث وكتب المعارضون لتصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل أن تصدير هذا الغاز إلى بلاد الأعداء هو الذى أظلم بلادنا وهو الذى سرق منا التيار الكهربائى وهو الذى أربك حياتنا فى أيام وليالى الشهر الكريم.. وبالطبع وجد الكثيرون فى هذا الكلام ما يريحهم وما يغنيهم عن السؤال والبحث والتفكير.. فإسرائيل بالتأكيد عمود نور رائع.. لافتة جميلة وبراقة تأخذ عقولنا واهتمامنا.. فكانت النتيجة الطبيعية أن معظمنا جرى نحو عمود النور صارخاً ومهللاً.. نعم تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل هو السبب.. هو الجريمة التى سرقت منا التيار الكهربائى.. وبالتالى لم يبق هناك من ينفض يده من مثل هذا اللغو وكل ما فيه من شعارات جوفاء وكلمات ساحرة وصارخة.. لم يبق هناك من يستوقفه خطأ فادح وقعت فيه الدولة التى رسمت خططها ووضعت تصورا مسبقاً لاستهلاك المصريين للكهرباء فى العام الحالى ثم تبين لها.. كالعادة بعد فوات الوقت.. أنها أخطأت التقدير والحساب.. وأن الفارق بين التوقع المسبق وبين ما جرى بالفعل زاد على الألف ومائتى ميجا وات.. حمل ثقيل تبين أن شبكة الكهرباء المصرية غير مهيأة للتعامل معه واحتماله واستيعابه فكان لابد من قطع التيار الكهربائى بين الحين والآخر هنا وهناك لتجاوز تلك الزيادة والألف ومائتى ميجاوات.. وهو أمر كان سيحدث سواء بقينا نصدر الغاز المصرى لإسرائيل أو توقفنا عن تصديره.. والمثير فى الأمر أن الشركة القابضة للكهرباء ومن خلفها وزارة الكهرباء، أعجبتهما تماماً تلك اللعبة، فكانت الشركة والوزارة أول من وقف عند عمود النور مع الآخرين يبحثون عن التيار الكهربائى الضائع، فكان هناك تسريب متعمد ومقصود من وراء أبواب الكهرباء ومسؤوليها بأن الغاز المصرى فى إسرائيل هو السبب، وحين ووجه هؤلاء المسؤولون بالحقيقة فى الغرف المغلقة، عادوا وقالوا إن الشبكة المصرية ليست مستعدة لتحمل ضغوط استهلاك إضافى تمثل فى محطات المياه والصرف التى بنتها الحكومة ولقرارها بإنارة كل العشوائيات فى مصر أو الضغط السياسى والإعلامى لإنارة مشروع ابنى بيتك قبل انتخابات مجلس الشعب المقبلة.. مسؤولو الكهرباء يقولون ذلك وراء الأبواب المغلقة لأنهم لا يستطيعون قول ذلك فى الهواء الطلق أمام الناس وإلا كان السؤال الطبيعى هو: هل قامت الحكومة ببناء كل هذه المحطات فى غمضة عين وأنارت كل العشوائيات فى لمح البصر بحيث فوجئت شركة الكهرباء بذلك بعد أن وضعت دراستها وخطتها لاستهلاك مصر من الكهرباء فى عام؟ ثم إن الحديث العلنى عن ذلك كان سيحرج وزارة الكهرباء التى تتغنى طوال الوقت وكلما تم افتتاح محطة جديدة بالشبكة المصرية للكهرباء التى باتت قادرة على تغطية مصر كلها بل وللتصدير للدول المجاورة أيضاً وأن مصر فى العشرين سنة الماضية بنت محطات هائلة كل منها أكبر وأهم وأقوى من السد العالى نفسه عشرات المرات.. ثم إن هناك أزمات ومواجع أخرى داخل قطاع الكهرباء وداخل قطاع البترول أيضاً ولا أحد يلتفت إليهما.. لا أحد يلتفت لقطاع البترول الذى استورد المازوت سيئ السمعة وقام بتوريده إلى محطات الكهرباء وأثر هذا المازوت الردىء على العمر الافتراضى للمواسير ومكونات الغلايات وهو ما جرى فى محطات الوليدية وشبرا الخيمة وعتاقة وأبوسلطان.. وقد كلف ذلك شركة الكهرباء ملايين الجنيهات.. ولا تزال تتفاوض مع وزارة البترول للوصول إلى حل حاسم لمشكلة المازوت غير المطابق للمواصفات.. كما أن الحكومة وقفت على الحياد كأن الأمر لا يعنيها فى الصراع الذى دار بين وزارتى الكهرباء والبترول حين قررت وزارة البترول فجأة أن تطالب الكهرباء بأسعار للغاز الطبيعى غير السعر المتفق عليه بين الوزارتين وهو 1.4 دولار للمليون وحدة حرارية.. وإذا استجابت الكهرباء لمطالب البترول فسينعكس ذلك بصورة كبيرة على فواتير الكهرباء التى يدفعها المواطن العادى وهو ما تخشاه الكهرباء فبقيت تنتظر تدخلا حكوميا لم يحدث حتى الآن.. وبالطبع لا أحد التفت إلى ذلك ولم يسمع أحد بذلك وسط كل هذا الصراخ الذى انطلق فجأة عن الغاز المصرى وتصديره لإسرائيل، ولست أقصد بذلك الدفاع عن تصدير الغاز المصرى لإسرائيل الذى أراه جريمة لابد أن تأتى لحظة عقاب كل من شارك فى تدبيرها، ولكننى أصبحت أضيق بسياستنا فى تناول أزماتنا والبحث عن حلول لها، ولو مشينا وراء الصارخين تأكيدا أن تصدير الغاز المصرى لإسرائيل هو السبب والمشكلة، وتوقف هذا التصدير بالفعل، ما كان ذلك ليحل مشكلة شبكة الكهرباء فى مصر وحمولها الزائدة، ثم إننى أصبحت أتوقف أمام تصريحات غريبة كسعر تصدير الغاز المصرى لإسرائيل، نعم السعر المصرى فضيحة وجريمة.. ولكن ما علاقة سعر الغاز بتوفير الكهرباء! ثم إننا حين نتحدث عن تصدير الغاز كسبب لأزمة الكهرباء.. فلماذا التوقف أمام إسرائيل فقط! ومع كل كراهيتى ورفضى لإسرائيل والتعامل معها على أى مستوى فإنه لو كانت المشكلة الحقيقية هى تصدير الغاز المصرى، فإن المشكلة هنا ستصبح تصدير الغاز للأردن وإسبانيا ولا فرق بينهما وبين إسرائيل.. فليس من المنطقى أن يجوز تصدير الغاز المصرى لأى دولة دون مشكلات ولكن تصديره لإسرائيل بالتحديد هو الذى قطع الكهرباء عن البيوت المصرية، وهو أمر يثير الضحك الذى هو كالبكاء، تعالوا مرة نبحث عن أشيائنا وحقوقنا الضائعة فى مكانها الصحيح، تعالوا نحارب ونرفض تصدير الغاز المصرى لإسرائيل دون أن نجعل ذلك هو المبرر الوحيد لكل الأخطاء والخطايا الأخرى التى نتعمد ألا نراها أو نحب ألا نراها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة