مثل كثيرين غيرى تابعت مرافعات الادعاء والدفاع فى قضية بطلان أو صحة عقد بيع الحكومة أرض «مدينتى» لمجموعة هشام طلعت مصطفى.. ولست هنا أناقش التفاصيل القانونية ولا الوقائع المنظورة أمام القضاء، لكننى فقط أناقش بعض العبارات التى وردت على لسان المحامين الكبار فى الفريقين المتصارعين.. استوقفتنى عبارات ضخمة وزاعقة قالها المحامون فى فريق الإدعاء.. الحرب على الفساد.. حماية أراض الوطن.. تواطؤ المسؤولين مع لصوص خمسة نجوم.. وعبارات أخرى زاعقة أيضا قالها محامون آخرون فى فريق الدفاع.. البناءون الكبار الذين لا تنطبق عليهم قوانين وأحكام معتادة.. هل هذه ضريبة خدمة الوطن.. إنها ليست قضية حقوق أو قانون إنما هى تجسيد للحقد على الناجحين أو تصفية حسابات لمصلحة آخرين.. وبقيت أياما أتابع جلسات تلك المحاكمة للتفتيش واصطياد مثل هذه العبارات والمعانى.. وخرجت تماما من قاعة المحاكمة وقضيتها المحددة إلى الهواء الطلق وقضيتنا كلنا فى مصر الآن.. وأعترف أن المسألة لم تعد تخص هؤلاء المحامين فقط فى قضية مدينتى.. إنما أصبحت تخصنا كلنا.. كلنا أصبحنا نميل لهذه المبالغة ونهواها ونحترفها أيضا.. فالمحامى الذى يقف أمام قاض فى محاكمة جنائية ويبدأ فى الحديث عن هموم وشجون الوطن.. أتأكد أنه محام عاجز ليس لديه ما يقوله فى صلب القضية المنظورة أو أنه محام محتال يريد لفت الانتباه لأى شىء آخر بعيدا عن أى أدلة وأوراق ووقائع.. والطبيب الذى يقف أمام مريض بالسرطان يتحدث عن فساد الوطن الذى سمح بالمبيدات المسرطنة والأطعمة الفاسدة هو طبيب فاشل أو مهمل.. والمريض الذى أمامه هو آخر من يحتاج أو يريد سماع تلك الكلمات الجميلة عن الوطن والذين قتلوا الجمال والأحلام فى هذا الوطن.. والصحفى الذى يخشى فتح ملف واقعة فساد محددة حتى لا يصطدم بأحد الكبار فيروح يكتب عن الفساد والفاسدين وضياع الحقوق فى هذا الوطن.. هو أيضا صحفى فاسد أو فاشل.. وبإمكانى تقديم نماذج لا أول لها ولا آخر من مختلف المهن والمجالات والدوائر.. فيها كلها مثل هذا الكلام الكبير الذى نحب أن نقوله أو نكتبه أو نسمعه أو نقرأه.. يخدعنا الذى يقول ويكتب.. ونحن نخدع الآخرين وأنفسنا.. ونبقى كلنا أسرى لهذه الدائرة الشيطانية دون أن نفكر فى كسرها لنتغير ونتحرك.. أنت نفسك سيدى القارئ اعتدت على هذا الخداع.. أصبحت مفتونا بمن يخدعك.. لم تعد تريد أو تبحث عمن يصارحك بالحقيقية بما فيها ضعفك وعجزك وكل عيوبك وصمتك وسلبيتك.. أصبحت تشاهد وتصغى لقضايا الفساد العمومية كأنك تسمع أغنية أو تشاهد فيلما جديدا على شاشة سينما.. لم تتوقف يوما لتسأل أصحاب أى برنامج تليفزيونى أو القائمين على أى صحيفة عن مصير أى قضية من تلك التى أثاروها بمنتهى الصخب والصوت الزاعق وحركات الشفاه وهز الأكتاف ورفع الحواجب.. كأنك عقدت اتفاقا غير معلن مع الجميع على تقسيم الأدوار.. هم يتظاهرون بأنهم يحاربون الفساد.. وأنت تصفق لهم لأنهم يحاربون الفساد بالنيابة عنك.. والفاسدون يسكتون عن بعض الشتائم والإهانات والانتقادات لتبقى أرباحهم متصاعدة وتبقى انتصاراتهم مستمرة.. وهكذا.. سيبقى حالنا عشر سنوات قادمة أو عشرين أو حتى مائة سنة.. أمة للكلام وليس الفعل.. أمة للتصفيق وليس للثورة.. أمة تغضب فقط أمام شاشات التليفزيون أوعلى أوراق الصحف ثم سرعان ما تدير مؤشر التليفزيون لمشاهدة حلقة جديدة من المسلسل أو مقلب جديد فى برنامج سخيف.. وتفرش الصحف الثائرة والغاضبة لتأكل عليها أو تضع فيها البقايا وتلقى بها فى سلة المهملات.. ولا أعرف الآن كيف يمكن أن يتغير كل ذلك.. لكننى أعرف أننا أبدا لن ننجح فى أى شىء طالما بقينا لا نتحدث إلا فى العموم دون تخصيص أو تحديد.. سننجح حين يقف المحامى أمام المنصة لا يتحدث إلا فى وقائع القضية المنظورة.. والصحفى يكتب بالأسماء والشخوص والتوصيف الدقيق.. والطبيب يعالج المرض والوجع فقط وليس أوجاع الوطن كلها فى لحظة واحدة.. سننجح حين نكف عن استخدام كلمة وطن بالحق والباطل فى كلامنا وكتاباتنا وأغانينا.. حين لا نريد أن نخدع أحدا فنزج بكلمة وطن فى الحديث.. حين لا نتظاهر بأننا نغنى للوطن بينما نحن نغنى على الناس.. وبالمناسبة.. لا أمريكا ولا إنجلترا ولا فرنسا ولا ألمانيا ولا إسبانيا غنوا لأوطانهم.. لكننا غنينا كثيرا حتى فاجأنا مدحت العدل ومحمد فؤاد بأغنية جميلة تقول.. يعنى إيه كلمة وطن؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة