عندما يقرر شاب فى أول العمر أن ينتظر قاربا صغيرا فى مكان مجهول لاصوت فيه إلا صراخ أمواج البحر وهى تصطدم بالصخر فى وحشية ووحشة، يقضى ليلته فى ظلام وبرد تحت سماء يغيب عنها القمر فى نهاية الشهر، يضع قدميه قبل الفجر بقليل على عتبة قارب عجوز وعلى كتفيه حقيبة لا تحمل سوى خبز جاف وعلبة سجائر، ماذا يتمنى سوى الموت بشرف، كل احتمالات مصيره المنتظر تؤدى إلى الموت، الموت دائما أقرب بكثير من الحياة فى رحلة هروب من مصر إلى أقرب مدينة تصادفه على الجانب الآخر، لا مانع من الموت إذا كان هو الأمل الوحيد للحياة، نحن أمام نوع من الاكتئاب وليس أمام محاولة بحث عن فرصة عمل فى بلاد الله الواسعة، اكتئاب حاد مخيف قاتل يغرز أظافره الطويلة فى جسد الشباب، فلا يترك لهم نقطة ضوء فى نهاية النفق، فيختارون موتا مبكرا خارج إرادتهم!
الموضوع طويل وليس الفقر أوله..
تحول الشباب.. إلى أعداء، كل شىء ضدهم، كل شىء يسرق منهم الأمل، كل شىء يسرق منهم الحلول الممكنة، كل شىء يسرق منهم قواهم العقلية، كل شىء يسرق منهم الحب، كل شىء يسرق منهم الحرية، كل شىء يسرق منهم أيامهم، كل شىء يسرق فرحتهم ومشاعرهم وعزتهم وكرامتهم ونزواتهم.
أغلقت أمامهم كل الأبواب والنوافذ، تعلموا الحيرة قبل أن يتعلموا الحقيقة، تعلموا الخوف قبل أن يتعلموا الأمان، تعلموا الضعف قبل أن يتعلموا القوة، تعلموا الكبت والحرمان قبل أن يتعلموا الثقة والحرية، تعلموا الصمت قبل أن يتعلموا الكلام، تعلموا النفاق والكذب قبل أن يتعلموا المواجهة والصدق.
هؤلاء لا يجب محاسبتهم على أنهم كسروا القوانين واخترقوا الممنوع، لايجب أن ننشر صورهم فى الصفحات الأولى من الجرائد على أنهم مجرمون هاربون من العدالة، ونكتب تحت الصورة كما حدث: المتهمون بالهروب تحت جنح الظلام. حرام، هؤلاء لو وجدوا حتى من يتكلم معهم، من يستمع لهم، من يترك بابا ولو كان مواربا لأحلامهم، لن يختاروا الهروب مع الأشباح المذعورة فى ليالى مظلمة لاشىء معهم سوى الخوف، لن يتنازلوا ولو لحظة عن لذة الحياة.
هؤلاء قرروا الخروج من مصر بدون حتى أسمائهم، وهذه منتهى المأساة والإهانة لأى إنسان.. وربما فى أى بلد آخر ينجحون فى التسلل إليه سوف يختارون أسماء أخرى وديانات أخرى!
هذا شباب لم يقرر الموت غرقا من أجل أن يرتدى «بنطلون جينز إيطالى»، أو الزواج من أول فتاة جميلة تقابله فى نابولى، هذا شباب مسحنا بآخر ماتبقى له من كرامة أرضه وعرضه.. فقرر البحث عنها فى بلاد أخرى لايعرف أحدا فيها ولا يعرفه أحد منها.
هل صعب إنقاذ 30 مليون شاب فى مصر من مصيره الغائب الغائم المجهول!
ليس صعبا، لأن إقامة مشروعات بعشرة مليارات جنيه فى مجالات مختلفة فى الصناعة وفى الزراعة يمكن أن تستوعب هذا الشباب وأكثر، فى أعمال محترمة ومرتبات مقبولة. وهذا رقم ضئيل أمام رغبة حقيقية فى إنقاذ ثروتنا من الشباب.
هناك قوة خفية تعمل بنظام منذ عشرين عاما تقريبا على هدم أهم ثروات مصر، وهم الشباب، بفنون، بإعلام، بصحة، بطعام، بتعليم.. وأنا أعتقد أنهم حققوا أكثر بكثير من الهدف الذى تمنوا الوصول إليه وفى فترة قياسية.
الأمل الآن والوحيد أن ينتبه الشباب نفسه.. لنفسه. وتلك قصة أخرى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة