لا أظن أن قاعة مجلس الشعب كانت المكان المناسب والمثالى لتلك المواجهة الساخنة بين المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات, وبين الدكتور عثمان محمد عثمان وزير التنمية الاقتصادية. فالاثنان كانا يتناقشان عن الفقر والفقراء فى مصر. المستشار أكد ارتفاع نسبة الفقر فى مصر العام الماضى من 20 إلى 22 %, بينما عارض الوزير ذلك تماما، مشيرا إلى انخفاض نسبة الفقر إلى 18.9% فقط, وطال الجدل وازداد سخونة بين الاثنين, حتى اضطر المستشار للتأكيد على أنه يستند فى أرقامه وكلامه إلى تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة, بينما أكد الوزير أنه يستند فى معارضته للتقرير الصادر عن البنك الدولى, «وما بين المستشار والوزير, وتقرير الأمم المتحدة للتنمية وتقرير البنك الدولى, والذين يعارضون الحكومة وينتقدونها بجدية أو بسخرية والذين يشيدون بأداء الحكومة ونجاحاتها. تاهت الحقائق والأهم أننا لم نلق من يملك إجابة لسؤال أهم من كل هذه الأرقام: هل مصر دولة فقيرة أم غنية, وهل معظم المصريين فقراء أو يوشكون أن يكونوا كذلك أم متوسطى الحال وباتوا يحلمون بأن يصبحوا أغنياء؟ وكنت ولا أزال أتمنى أن تجتهد الحكومة بكل هيئاتها, والإعلام بكل فصائله, لامتلاك إجابة محددة لهذا السؤال عن الفقر والفقراء, فأنا لا شأن لى بكل التقارير الدولية مع احترامى لها, ولا أجد أى صلة لكل هذه الأرقام بالواقع الحقيقى الذى يعيشه الناس كل يوم فى مصر, وإذا كان المستشار والوزير قد استغرقهما الجدل الساخن الطويل على 2 % أكثر أو أقل, فأنا أود أن أطمئن الاثنين بأن الفقراء فى مصر ربما يقترب عددهم أو يزيد على نصف سكان مصر, فالحكومة تتخيل الفقير هو الذى يريد الرفاهية ولكنه لا يملك ثمنها, بينما أعرف أنا أن الفقير هو من لا يملك تكاليف أعباء الحياة الأساسية, فهو فقير.. كل من لا يملك ثمن طعامه الكافى له ولأسرته, كل من لا يملك ثمن تعليم أولاده, أو ثمن ثيابهم وعلاجهم, فقير كل من تجاوز الثلاثين ولم يملك بعد وظيفة أو أى مصدر للدخل, ولم يتزوج لأنه لم ولن يملك بيتا خاصا به هو وزوجته, فالحكومة للأسف تتخيل أن الفقراء هم الذين يرونهم الوزراء فى الشارع, إن تصادف وسار الوزراء فى الشارع, يجلسون على الأرصفة ويبحثون فى القمامة عن الطعام أو يرتدون الثياب البالية أو يتسولون المال من ركاب أى سيارة عابرة, وليس كل ذلك صحيحاً, فهؤلاء فقراء بالفعل, ولكنهم فقراء أيضاً هم الذين يبكون بالدموع الظاهرة أو الخفية إن ارتفع سعر كيلو السكر أو زجاجة الزيت وحين تمارس الحكومة الاستعباط والغفلة فى فواتير الكهرباء والماء والغاز, وحين يخصمون نصف وجبات الطعام لتدبير تكلفة جراحة ضرورية أو درس خصوصى, «بل هم فقراء أيضاً أولئك الذين يمتلكون سيارة خاصة قديمة يعجزون عن إصلاحها أو يقيمون فى بيت متهالك يعجزون عن تجديده, وأمثلة وحكايات أخرى كثيرة لا معنى لها إلا أن المصريين فى معظمهم فقراء. صحيح أنك لن تراهم يبكون أو يشكون ويصرخون, ولكنها عزة النفس فقط هى التى تمنعهم من ذلك, كبرياؤهم فقط هو الذى يجعلهم يقابلونك بابتسامة مستحيل أن تعرف حجم ما وراءها من آهات ودموع ومعاناة, ولكن المشكلة أن الحكومة لا تعترف بأن هؤلاء فقراء, فالحكومة لا تحب أن تعرف أو تعترف أنها حكومة تدير شئون وشجون شعب فقير, إذ إنه لو جرى ذلك, لما بات ممكنا لهذه الحكومة أن تفرض أى ضرائب جديدة من أى نوع ولا أن يتبجح بعض مسئوليها بتبرير تحريك الأسعار من وقود إلى خبز إلى طعام وثياب, لو اعترفت الحكومة بفقرنا وفقرها, لما عاد هناك مبرر لكل هذا البذخ الذى تمارس به الحكومة معظم حياتها وأوقاتها, فالحكومة من مصلحتها التأكيد على أن مصر ليست دولة فقيرة يسكنها فقراء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة