(1)
ظهرت القومندانة قرب الظهرعلى باب الحجرة بوجهها المستدير المتجهم الذى يجلله شعر رمادى. ملأت فتحته بجسدها البدين. قالت إنها ستضم إلينا طالباً روسيا. قلت لها إن هناك ثلاثة أسرة فقط فأشارت إلى واحد مفكوك وملقى فوق الدولاب. قلت: سنى 53 ولا أحتمل التكدس والضجة، ثم أنى مفروض أن أقيم فى غرفة مفردة كبقية طلاب الدكتوراه. نظرت إلى برهة كأنما تقيس حجمى الضئيل وإذا ما كنت أستحق فعلاً غرفة كاملة. قالت: جسبادين، سيد، شكرى، لادنا، حسنا، ستبقون ثلاثة كما أنتم.
أصلح ماريو البرازيلى بعد انصرافها من وضع تقويم العام 1973 المثبت على الحائط قرب الباب. كان نحيفاً فى طولى، ذا عينين ضيقتين عصبيتين ويرتدى قميصاً صوفياً مخططاً وبنطلوناً من الجينز. قال وهو يعبث بالحلق المدلى من أحد أذنيه: إنهم يحرصون على وضع طالب روسى مع الأجانب لينقل أخبارهم. قال جلال الدينوف، الطويل ذو الملامح الآسيوية، ابن جمهورية قرغيزيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتى، كأنما يحاول درء الشبهة عنه: ليس هناك ما يستحق النقل.
ارتديت معطفى ووضعت الشابكا، القبعة الصوفية، فوق رأسى، ولففت الكوفية حول عنقى، وارتديت الحذاء المبطن بالفراء ذا النعل المناسب للمشى فوق الجليد. تأكدت من وجود القفاز فى جيبى، هبطت الدرج النظيف إلى الطابق الأرضى ووجهت التحية إلى الدجورنايا، حارسة الباب، ثم غادرت الأبشجيتى، بيت الطلاب. كانت الشمس قد اختفت وهاجمنى الثلج المتساقط والهواء البارد. سالت إفرازات أنفى وأنزلت الزائدتين اللتين تغطيان الأذنين وارتديت القفاز. مشيت فوق الجليد بحذر. كانت الواجهة الزجاحية للمجازين، الحانوت، مكدسة - مثل كل الحوانيت - بأهرامات من العلب المعدنية لللبن المركز، ولا شىء غيرها. وتمتد فى أعلاها لافتة من القماش تحمل هذه العبارة: «نحن ننفذ الخطة. إلى الأمام نحو الشيوعية». وتجمع عند المدخل عدد من السكارى ضم أحدهم أصبعين فوق ياقة سترته. دعوة للاشتراك مع اثنين آخرين فى زجاجة فودكا.
لم يكن الاختيار صعباً بسبب محدودية المعروضات. فوقفت فى طابور الشراء أتأمل صورة بريجنيف المعلقة على الجدار. اختفت إحدى البائعات اللاتى يرتدين معاطف بيضاء. وانهمكت أخرى فى حديث طويل مع ثالثة. أخذت ايصالا بما أريده. ثم انتقلت إلى طابور آخرللدفع وحسبت البائعة ثمن مشترياتى على الحاسبة الخشبية: 031 كبيكا بيض، 03 كيفير (لبن رائب)، 463 فودكا و08 خبزا. دفعت وأخذت إيصالا بالمبلغ ثم انتقلت إلى طابور ثالث لأستلم مشترياتى.
أردت أن أنتقى الخبز بيدى المجردة فنهرتنى العاملة فى عنف واستخدمت شوكة معدنية فى التقاط الخبز. غادرت الحانوت ووقفت أتفرج على شرطى دفع رجلا إلى الحائط وأخذ يضربه بوحشية بالغة ثم ألقى به فى سيارة الشرطة.
تجاوزت عجوزا فى معطف أبيض وبوط أسود خلف صندوق لفطائر البيروشكى. فتحته لتبيع واحدة فلفحها البخار المتصاعد منه. اتجهت إلى كشك السجائرالذى يتولاه عجوز أشيب الشعر. عندما أصبحت أمام نافذة الكشك فوجئت بالبائع يغلقها وينهمك فى مراجعة عدة صناديق من السجائرطبقا لكشف فى يده. كان يفعل ذلك ببطء شديد ويده ترتجف. راجع محتويات الكشف مرة أخرى ثم عد النقود المتحصلة لديه ثم بحث عن شىء ما. خلال ذلك تكون طابور خلفى وأخذت أتقافز فوق قدمى لأبث فيهما الدفء. سمعت من يقول إن الحرارة تحت الصفر بعشر درجات. وقال آخر: العجوز يبحث عن قضيبه. وسأل آخر: هل وجده؟ أجاب الأول: طبعا لا. أخذ البائع يصف أصنافا جديدة من السجائر خلف الزجاج ويضع عليها علامات بأسعارها. وانفلتت إحدى العلامات فأعاد تثبيتها فى بطء. وأخيرا فتح النافذة. اشتريت علبة سجائر تيو 144 وعدت إلى الأبشجيتى.
كانت يداى قد تجمدتا من البرد فأسرعت إلى حمام الطابق الأرضى ووضعتهما تحت الماء البارد كما نُصحت بأن أفعل. وشعرت بالألم فى أطراف أصابعى عندما بدأت تدب فيهما الحرارة.
قابلت القومندانة وأخذت منها ملاءات نظيفة. كدت أصطدم بفيرا اليهودية التى ترتدى دائماً جوبات قصير. صعدت إلى غرفتى فى الطابق الرابع. لم يكن بها أحد. أعددت ثلاث بيضات فى المطبخ المشترك للطابق، أكلتها ثم أعقبتها بكوب من الشاى الجورزينى الجيد، نسبة إلى جمهورية جورجيا السوفييتية. أشعلت سيجارة وسحبت الدخان بقوة فقفز الفيلتر فى فمى. شعرت بالرغبة فى النعاس فاستلقيت فوق فراشى القائم فى الركن الأيمن مقابل فراش ماريو فى الركن الأيسر. وكان سرير جلال الدينوف ملاصقاً لسريرى يصنع معه خطاً مستقيماً بحيث يرقد عند أقدامى.
أيقظنى جلال الدينوف عند دخوله. استند إلى الدولاب الخشبى الصغير وقال: تفاريش، رفيق، شكرى، أعرف أن المصريين كرماء وأنا مسلم مثلك وأريد معروفا. قلت: تكلم. قال إن له صديقة روسية فى بلده ينوى الزواج بها وليس معها تصريح بالإقامة فى موسكو، فهل يستطيع إحضارها لتقيم معنا؟ سألته: كيف ستنام؟ قال: فى سريرى وسنضع ستارة حولنا. سألته: هل أخذت رأى ماريو؟ أجاب: نعم، وافق. أبديت موافقتى فتهلل وجهه وأخذ يعد حقيبته للسفر كى يحضر صديقته.
علمت منه أن ماريو سيسافر بالليل إلى ليننجراد، نزلت إلى الطابق الأرضى ووضعت كابيكين فى جهاز التليفون العمومى. تلفنت لمادلين فى معهد اللغات. انتظرت حتى تم استدعاؤها ثم دعوتها للمجىء فى الغد. سألت: وماريو؟ لا أريد أن يرانى. قلت: سيسافر الليلة.
(2)
حلقت ذقنى بالموس السوفييتى الحديدى وأنا أتعجب من أمر السوفييت: يصنعون الصواريخ وعاجزون أو غير مهتمين بصناعة موس آدمى. حملت ملابس نظيفة ونزلت إلى الحمام العام فى الطابق الأرضى. استحممت بالمياه الساخنة. صعدت إلى حجرتى فألقيت بالمنشفة فوق الشوفاز الساخن لتجف. وفى الخامسة وفدت مادلين بعد أن تركت بطاقة هويتها لدى الحارسة. كانت برازيلية فى منتصف العشرينيات، دقيقة الحجم، سوداء الشعر، أسنانها العلوية بارزة بعض الشىء. وكنت قد تعرفت بها هى وماريو أثناء دراسة اللغة. احتضنتها وأحضرت أبريق الشاى من المطبخ. أرتنى فى انفعال أسطوانة روبرتو كارلوس البرازيلى الذى يغنى بالبرتغالية وأهدتى عطرا رجاليا رشاشا. وضعنا الأسطوانة فوق «البيك أب» الصغير وأغلقت الباب بالمفتاح. خلعت بنطلونى وبقيت بالسروال الصوفى الداخلى وخلعت هى الكولون السميك الخمرى اللون. تحسست فخذيها المبلولين. كنت أسألها عادة عن الفترة الآمنة، ونحسب الأيام التى انصرمت منذ آخر دورة شهرية. لكنى نسيت هذه المرة وتذكرت وأنا داخلها. سألتها فلم تنزعج. كانت تستسلم لى دائما قائلة إنها تثق فى وأنى أعرف كل شىء. حاولت أن تقبلنى لكنى أبعدت فمى عنها فلم أكن أحب شفتيها. تجنبت ثدييها لأنها لم تكن تشعر بشىء من مداعبتهما. قالت بعد لحظة: اضربنى. لم أفعل لأنى لم أكن أحب ذلك أيضا.
عاودتنى الآلام فى ق.. عندما انتهينا، أما هى فقد تنهدت فى ارتياح قائلة: لم أعد أتألم كما كان يحدث مع صديقى هرمان بسبب ق.. التخين، يبدو أننى اتسعت من المران.
(3)
طُرق الباب. سألت: كتو تام؟ من هناك؟ فتحت لهانز الألمانى الوسيم. كان فى الثلاثين من عمره وأطول منى يتدلى شعره الأشقر الناعم فوق جبهته مفروقاً من الوسط وله شفتان غليظتان. كان يأتى من ألمانيا عدة مرات فى السنة ليلقى الأستاذ المشرف على رسالته. حيانى: بريفيت. قال إن معه طالبتين روسيتين من ساكنات الطابق الخامس. سألنى أن أنضم إليهم لأن فريد وحميد السوريين اللذين يشاطرانه الغرفة غائبان.
رافقته إلى غرفته حاملا البيك أب وأسطوانة الموسيقى العربية. كانت الاثنتان فى بداية العشرينيات: زويا نحيفة فى طولى أو أطول قليلا ذات وجه طفولى وعينين زرقاوين وشعر أشقر قصير وصدر صغير، متزوجة من مجند فى الجيش يعسكر فى منطقة بعيدة. والأخرى شقراء أيضا تدعى تاليا ذات ملامح عادية.
كانت الغرفة تحوى فراشين متقابلين وثالثا خلف الخزانة الخشبية التى وضعت بعرض الغرفة عند المدخل. وضعت البيك أب فوق المكتب الذى توسط الفراشين أسفل النافذة وأدرت أسطوانة الموسيقى العربية. أنصتت الفتاتان فى وجوم ثم قالت تاليا: أليس لديك موسيقى راقصة؟ أحضرت من غرفتى ثلاث أسطوانات غربية لموسيقى حديثة. وضعت واحدة فصفقت زويا.
قدم لنا هانز فودكا وقطعة جبن وخبزا متجلدا. صب لنا وجرع كأسه قائلاً: نازدروفيا، نخب الصحة. رفعت كأسى إلى فمى وأخذت منه رشفة. قالت زويا: ليس هكذا، يجب أن تشرب الكأس كله مرة واحدة. قلت: لا أريد أن أسكر. قالت: سأعلمك كيف تتجنب ذلك: فى البداية تشم الفودكا ثم تأخذ رشفة وتبقيها لحظة فى فمك، ثم تبتلعها وتجرع الكأس كله وعلى الفور تأكل شيئا. جرعت كأسى حسب تعليماتها ثم تناولت قطعة من الخبز. قالت إن أباها لم يكن يشرب إلا الكحول المركّز ويرفض خلطه بالماء أو أى شىء، وللتأكد من تركيزه يملأ كأساً ويشعل فيها النار، فإذا اشتعلت أطفأها وشرب. قالت تاليا: الخبز الطازج المصنوع من الدقيق النقى يوجد فقط فى أماكن محددة: كوتوزوفسكى بروسبكت قرب منزل بريجنيف وحانوت فى شارع جوركى وسينما الفنون فى الأرباط. اعتذرت عن كأس أخرى فقال هانز: يجب أن ننهى الزجاجة، فلا توجد وسيلة لإغلاقها بعد فتحها. سألتنى زويا وهى تزيح خصلة من شعر رأسها تدلت فوق عينها وتثبتها خلف أذنها، عن مصير الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى البلاد العربية. قلت إنها لن تتحرر إلا إذا تغيرت الأنظمة الحاكمة. قالت: لكن بعضها يؤمن بالاشتراكية؟ قلت: هذا ما يزعمونه. حكيت لهم عن حرب الاستنزاف التى نخوضها منذ سنوات ضد الاحتلال.
كانت زويا تجلس بجوار هانز فوق فراشه واستلقت تاليا بعرض الفراش المقابل مسندة رأسها إلى الحائط. وجلست أنا على المقعد الوحيد بجوار المائدة. سألتنى تاليا عما إذا كنت اشتركت فى القتال. قلت إننى كنت مجندا فى أحد المكاتب العسكرية بعيداً عن الجبهة ثم عدت للتدريس فى الجامعة وحصلت على منحة من برنامج التبادل الثقافى مع الاتحاد السوفييتى. اقترحت زويا إطفاء النور وأشعلنا شمعة. جذبها هانز ليرقصا فاستسلمت لأحضانه. لم أتحرك من مكانى. كان بصرى معلقا بوجهها وساقيها العاريتين. تأملتنى تاليا واجمة. سألتنى عن وضع المرأة فى مصر. قلت إنه تحسّن كثيراً بعد الثورة فخلعت البرقع والنقاب وأصبحت تمارس كثيرا من المهن حتى إنها عملت أخيراً محصلة فى سيارات الباص. بعد قليل وقفت قائلة: سأذهب لأن عندى دراسة. وخاطبت صديقتها قائلة: ألن تأتى معى؟ قال هانز: دعيها تبقى قليلاً. انصرفت تاليا وواصل الاثنان الرقص. ثم جلسا فوق الفراش. وساد الصمت بيننا. قمت واقفا مستأذنا فى الانصراف وحملت البيك أب وأسطواناتى ومضيت إلى حجرتى.
(4)
لم أجد مياها ساخنة لحلاقة ذقنى فتمتمت ساخطا: يا فتاح يا كريم. عثرت على بيضة وحيدة فأخذتها إلى المطبخ ووضعتها فى قليل من المياه على نار البوتاجاز. عدت إلى الغرفة وأنا أغنى: هذه بيضتى أنا.على نسق إحدى الأغانى الوطنية التى تقول: هذه أرضى أنا، وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا.
ترجمت لماريو ما قلته بالإنجليزية التى يجيدها. فضحك. سألنى ماذا ستفعل الليلة؟ قلت: لم أقرر بعد. وأنت؟ قال إنه سيقضى الليلة مع أبناء جلدته. سألته: مادلين؟ قال: هى وصديقتها إيزادورا وآخرون.
كانت إيزادورا سمراء متفجرة بالأنوثة ذات ملامح أفريقية وكبرياء. وكنت معجباً بها لكنى تهيبتها فاهتممت بصديقتها مادلين. أما هى فارتبطت بشاب من بلدها اسمه هيكتور. كان وسيماً ورياضياً ويبدو من أبناء العائلات البورجوازية الذين تتاح لهم أوجه كثيرة من النشاط الإجتماعى.
خرج ماريو إلى المعهد. تقدمت من النافذة ووقفت أتأمل الثلج المتساقط. جذبت المصراع الزجاجى. كان خلفه مصراع زجاجى آخر - به كوة صغيرة تفتح للتهوية - وبينهما مساحة تقوم بدور الثلاجة نودع بها ما لدينا من زبد وجبن وكلباسا، اللحم البارد. أخرجت الزبد ووضعته على المائدة إلى جوار الخبز الأسود والجبن والمربى. وذهبت إلى المطبخ فغليت مياه الشاى وعدت بها إلى الغرفة. وكما توقعت قرع فريد بابى. كان قصير القامة بدينا ذا صوت جهورى وشارب كث. وتعود أن يبدأ يومه بزيارتى وتناول الإفطار معى. جلسنا نأكل وهو يثرثر. حدثنى عن زميله حميد الذى سينهى دراسته هذا العام وعن هانز وعن غزوات الاثنين النسائية المتتابعة. وكالعادة شعرت بصوته يكاد يخرق أذنى. وانتابنى هبوط مألوف وتمنيت أن ينصرف.
(5)
انطلقت إلى معهد «التاريخ المعاصر» سيراً على الأقدام رغم الجليد. كانت الشوارع مليئة ببقايا أشجار عيد الميلاد الخضراء الصغيرة وشرفات البلوكات السكنية مزدانة بالمصابيح الملونة والشعارات: الحزب والشعب متحدان، المجد للعمل، تعيش الشعوب السوفييتية بناة الشيوعية. استوقفنى فى المدخل حارس بلباس رسمى أسود مزين بأزرار نحاسية. أريته بطاقتى ودفعت الباب الزجاجى. طالعنى وجه لينين محفوراً فى الخشب وفوقه لافتة تعلن: «إلى الأمام نحو انتصار الشيوعية». خلعت معطفى وسلمته فى ركن المعاطف ومعه الكوفية والشابكا.
حضرت درس اللغة الروسية. كانت المعلمة فى منتصف الثلاثينيات وترتدى جوبة قصيرة فوق كولون أبيض. ثم تناولت الغداء فى مطعم المعهد: حساء كرنب له رائحة مياه غسيل الملابس، مع خبز أسود وجولاش به نتف من اللحم، وشاى.
(6)
اقترح هانز أن نخرج للتنزه مع زويا وتاليا لأن اليوم سبت. وفى آخر لحظة اعتذرت تاليا فصرنا ثلاثة فقط. قال إننا فى حاجة إلى فتاة إذ لا يعقل أن نكون اثنين مع واحدة. اتصلت زويا بصديقة لها لتأتى معنا فاعتذرت هى الأخرى. قالت: نيتشيفو، لا بأس، نذهب نحن.
مضينا سيراً على الأقدام إلى الغابة القريبة تحت الثلج المتطاير. عائلات بكاملها تمارس الانزلاق على الجليد. أطفال فى ملابس ثقيلة أقاموا رجلا من الثلج. غطت زويا رأسها بشابكا صغيرة من الصوف المطرز كشفت أطراف شعرها الذهبى. لم تكن لغتى الروسية قادرة على ملاحقة الحديث الذى تبادلاه بحماس. اكتفيت بالإنصات إلى صوتها الموسيقى. وأحيانا كان هانز يترجم ما قالته إلى الإنجليزية. كانت تتحدث بلهجة طفولية شاعرية عن مظاهر الطبيعة وعن طفولتها. وفجأة دمعت عيناها واكتشفت أنها تتحدث عن موت خروشوف أو خروشتشيف كما ينطقونها.
قلت إنى حضرت دفنه. كنت قد عرفت النبأ فى الصباح من صحفى صديق وذهبت معه إلى مقبرة نوفا ديفنشى كلادبيشو. وعندما أردنا الدخول منعنا الحراس. تقدمتنا عجوز متواضعة الملابس بوجه مجعد وأعين دامعة يغطى رأسها منديل أبيض، وقدماها فى حذاء بال من الفلين. توسلت للحارس كى يسمح لها بالدخول وهى تردد: تفاريش، رفيق، تفاريش. وأخيراً سمحوا للواقفين جميعاً بالدخول. مضينا بين مقابر زعماء وعلماء وفنانين بينهم تشيخوف وجوجول - الذى دفن خطأ وهو حىّ - وماياكوفسكى وزوجتا ستالين وكوسيجين. وصلنا إلى الصف المخصص لموتى العام الحالى. أحاط بنا بضع عشرات قال صديقى إن أغلبهم من رجال المخابرات والصحفيين الأجانب. تمكنت من رؤية الجثمان فى حفرة المقبرة. جسم ضئيل ووجه شاحب مختلف تماما عن الوجه المألوف المتقد حيوية وسلطة. وعندما انتهت الكلمات طاف الجميع من حوله وألقى كل منا بحفنة تراب وأحجار فى الحفرة.
مسحت زويا عينيها بظهر يدها المقفزة قائلة: نشر خبر وفاته بعد يومين فى ذيل الصفحة الأولى للبرافدا بحروف صغيرة.
احتضنها هانز وتبادلا قبلة عميقة. قال إن الأمور متشابهة فى كل مكان، فمن يهزم فى الصراع على السلطة يختفى من التاريخ. لم أعلق.
قررنا النزول إلى وسط المدينة. ركبنا باصا صغير الحجم إلى محطة المترو. دفع كل منا 5 كبيكات عند مدخلها الدوار. وقفنا ننتظر القطار حتى أقبل مندفعا ليتوقف فجأة. انزاح بابه مفتوحاً مفرجاً عن الرائحة الثقيلة للزحام الروسى: الملابس الرطبة، الثوم، الكرنب، الجلد المبلل. اندفعنا وسط شبان مرحين فى بزات التزحلق الصوفية فى طريقهم إلى محطة بيلوروسكا والغابات الثلجية. صاح قائد القطار: ديريفا زكريفايتسا، الأبواب تغلق. وصلنا المحطة المؤدية إلى الميدان الأحمر. الثريات الضخمة. السلم الكهربائى المتحرك. جماعة من الأرمن يبيعون اليوسفى. نساء ملفوفات بالأوشحة يبعن باقات زهور. البابوشكات، الجدات، المنحنيات تحت وطأة ما يحملنه من سلال. وأخيراً الشارع تحت الثلج الذى أصبح أكثر ثقلاً وبدأ يتراكم فوق الرصيف. الناس تمشى بحذر فوق الأرصفة التى تغطى بعضها بالرمل. المعاطف السميكة المبطنة بالفراء والقبعات المصنوعة من جلد الغزال أو من الاستراخان الحقيقى والشيلان حول الأعناق. لا يظهر من الوجوه غير فتحتى الأنف والعينين.
نازحات الجليد فى كل مكان وإلى جوارها الناقلات التى تنثر الرمال. فرق من النساء بالجواريف والنازحات الخشبية والمكانس يقمن بتنظيف الشوارع الجانبية. أخريات يزحن الجليد عن السيارات المركونة تاركات قطع من الكارتون بين ماسحات المطر تعنى غرامة خمس روبلات لأصحابها. بعضهن يحملن مشاعل لإذابة الجليد من بين قضبان الترولى باص. طابور طويل من المنتظرين خارج ضريح لينين ليلقوا نظرة على جثمانه المحنط.
عبرنا الميدان إلى قبر الجندى المجهول. وقفنا عند الحاجز. قرأت اللوحة التى خاطبته: «اسمك مجهول وأعمالك خالدة». ذكرت اللوحة أن الجندى مات فى طريق المطار عند النقطة التى أوقف فيها الجيش الأحمر تقدم الألمان نحو موسكو. كان هناك جنديان يحرسان القبر فى كشكين صغيرين من الزجاج. وحل موعد تغييرهما فظهر بديلاهما يخطوان فى مشية الأوزة. تجمع زحام صغير. وبكت إحدى العجائز.
قالت زويا بلهجتها الشاعرية إن أبراج الكرملين وقباب الكاتدرائيات التى على شكل البصل، تضاء بالليل فتبدو مثل الحكايات الخيالية.
تجولنا قليلاً ومررنا بالجوم، الحانوت الضخم الذى يبيع كل شىء. وسط الجليد وقف بائع الماروجنا، الأيس كريم، بردائه الأبيض والبوط. توقف سقوط الثلج وظلت السماء رمادية. تجمد المخاط فى أنفى. مرت بنا سيارات الفولجا والموسكوفيتش تتخللها فى أحيان سيارة أو اثنتان من طرازى زيل وتشايكا اللذين يستخدمهما الحكام. تحولنا إلى اليمين عند حانوت التسوم وتوقفنا نتأمل أعمدة مسرح البلشوى: مرتفعة بأربعة جياد من البرونز فوق قمتها. دقت ساعة الكرملين دقاتها الرصينة التى أعلنت انتصاف النهار. تركنا كنيسة سانت بازيل خلفنا وواصلنا طريقنا صعودا إلى ميدان سفردلوف خلف فندق موسكفا. كان أمامه باص سياحى تجمع حوله قليل من الركاب. بالجوار كشك لبيع الملصقات والصحف والهدايا. أخذت أتقافز لمقاومة البرد وفقدت الشعور فى يدى اليمنى.
اقترحت زويا أن نتناول طعام الغداء فى استالوفيا، وهى نوع من المطاعم الشعبية معروفة برخص أسعارها فالوجبات الثلاث لا تتكلف أكثر من ثلاث روبلات أى حوالى 150 قرشاً مصرياً. تناولنا غداء من سلاطة وخبز وحساء سمك وأرز أو بطاطس محمرة مع لحم أو دجاج أو سمك مع العصائر والفاكهة. وكان بريجنيف يطل علينا طول الوقت من على الحائط.
أبدى هانز قلقه من مستوى الأكل ونظافته فقالت زويا إن الطباخات يرتدين ملابس نظيفة معقمة، ويضعن على رؤوسهن بونيهات بيضاء ويتم الكشف الطبى على الجميع كل شهرين. وضحكت قائلة: صحة الإنسان السوفييتى مقدسة. أما عقله فشىء آخر.
(7)
عاد جلال الدينوف مع فتاته ناتاشا. شقراء روسية فى الثامنة عشرة من عمرها. وديعة وخجولة. سألته كيف أدخلها. قال وهو يلامس إصبعه السبابة بالإبهام بالطريقة العالمية: تفاهمت مع الديجورنايا، الحارسة. ثبت بطانية حول فراشه بحيث تحجبهما عنا. وقبل النوم طلب منى أن أدير أسطوانة لجلينكا حاشدة بأصوات قرع الطبول. ثم توارى مع صديقته خلف الستارة. وفى الصباح الباكر تسلللت الفتاة إلى الطابق الخامس المخصص للفتيات لتغتسل.
خرجت إلى الكوريدور وقمت بتمرينات الصباح الرياضية ثم أعددت شايا وقدمت لها كوبا. جلست إلى المائدة أمام الآلة الكاتبة العربية.
بقيت الفتاة طول اليوم فى الحجرة لا تغادرها خوفاً من أن تتعرض للاكتشاف. وفى الليل سألنى جلال الدينوف: ألن تعمل على الآلة الكاتبة؟ أجبت بالنفى. طلب منى أن أدير أسطوانة جلينكا ثم توارى مع صديقته خلف الستارة.
(8)
لم أذهب الى المعهد فى اليوم التالى وانقطعت للعمل على الآلة الكاتبة. وتبادلت مع ناتاشا عبارات متقطعة فهمت منها أن جلال من عائلة ذات مكانة فى بلده تملك كثيراً من الأبقار. قلت لها: إن وضعك صعب جداً فى غرفة بها ثلاثة رجال. ضحكت فى خجل وقالت: لكننا نتصرف. قلت: كيف؟ قالت: عندما نطلب منك إدارة البيك أب. سألتنى إذا كنت متزوجاً. أجبت بالنفى.
فُتح الباب فجأة دون طرق واندفع جلال الدينوف داخلا ووجهه محتقن. تطلع حوله ثم جذبها خلف الستارة. ودار بينهما نقاش حاد. خيل إلى أنها قالت له إنها لم تفعل أكثر من تبادل حديث قصير معى. بعد ساعة حزما حقائبهما وغادرا الغرفة.
خرجت إلى الكوريدور ومررت بالغرفة التى يقيم بها خليفة السنغالى بمفرده بسبب نفوذ عائلته أو قبيلته. كان الباب موارباً وثلاجة متوسطة الحجم قربه. ثم فتاة فنلندية مستلقية على الفراش وغير آبهة بانكشاف فخذيها حتى الكيلوت، تتطلع إلى الباب منتظرة. ولمحت خليفة فى نهاية الكوريدور مع بعض الطلاب. طرقت باب غرفة السوريين. فتح لى هانز ورأيت زويا فى الداخل. كانت جالسة فى وجوم على فراشه. أدركت السبب فى وجومها عندما أعلن عزمه السفر فى عطلة الأسبوع إلى ييريفان عاصمة أرمينيا مع طالب أرمنى. أراد أن يخفف الجو فروى نكتة روسية تسخر من الأرمن: تلقى راديو ييريفان سؤالاً من أحد المواطنين عما إذا كان من الممكن أن يحمل الرجل؟ فأجاب المذيع: لم يثبت ذلك لكن التجارب تجرى الآن فى جميع أنحاء أرمينيا.
دخلت علينا تاليا واستسلمت زويا بلا نفور لقبلاتها فى الفم. شعرت بالتقزز وهو نفس الشعور الذى يخالجنى عندما أرى العرب يتبادلون قبلات الشفاه. روينا لها نكتة الأرمن. قالت: لدى نكتة جديدة: فوجئ ركاب المترو بأحدهم يضرب جبهته بيده فى قوة ويصيح كيف حدث ذلك يا غبى يا حمار يا ابن العاهرة؟ أسرع إليه مفتش القطار: ما ذا تقول؟ أنت تجرح مشاعر الناس والقانون يعاقبك. قال له: اسمع الحكاية. ثم فوجئ الناس بالمفتش يخبط جبهته ويصرخ: يا غبى يا حمار با ابن العاهرة. ثار الركاب وأخذوهما إلى الشرطة، سأل الضابط عما حدث فقال الراكب: سأحكى لك يا رفيق، أنا كما ترى أبيض الوجه والجسم وأصفر الشعر وامرأتى شقراء بيضاء وولد لنا ولد زنجى أسود. فضرب الضابط جبهته بقوة قائلاً: كيف حدث ذلك يا غبى يا حمار يا ابن العاهرة؟
وفد حميد بعد قليل. كان ممتلئا فى طولى بشعر ناعم وشارب خفيف. قال لى بالعربية إن المحاكم الأردنية حكمت بالإعدام على 63 فدائيا فلسطينيا وإن جولدا مايير رئيسة وزراء إسرائيل أشادت بما أسمته «شجاعة الملك حسين وفروسيته».
(9)
قال هانز إنه سيصعد إلى غرفة زويا ليشرب الشاى. ودعانى للحضور. فكرت: كنت أريد أن أغفو قليلا لأكون منتعشاً فى سهرة المساء الموعودة. كما أنى شعرت أن وجودى معهما لا معنى له. سيكون الحديث مملاً بالروسية. اعتذرت.
تمددت فوق الفراش بملابسى من جديد. شعرت برغبة فى الاستمناء لكنى عدلت. ربما بنوع من الكسل. أو تجنباً للألم الذى أشعر به آنذاك. رحت فى النوم وشعرت بالبرد فتغطيت. استيقظت على قرع الباب. فتحته لأرى زويا أمامى. كانت تطلب سكيناً. بحثت عن سكين وأنا مجرد من عويناتى. انحنيت أمام الخزانة لأبحث فى درجها السفلى. وبركن عينى لاحظت أنها ترتدى ثوباً قصيراً وأن ساقيها عاريتان بلا جوارب. أعطيتها السكين. قالت إنها تعد حساء ودعتنى للحضور. انصرفت وعدت إلى الفراش. شعرت بهبوط. تمنيت أن يأتى أحد ليقول لى إن سهرة المساء ألغيت. أو أن أستطيع النوم إلى الغد. أو تأتى مادلين بالصدفة. ثم تصورت أنى سأضطر إلى اصطحابها عند الخروج وتوصيلها، وبعدئذ ستطلب أن نتقابل مرة أخرى فعدلت عن الفكرة كلها تماماً.
حاولت أن أتذكر ملامح وجه زويا ونبرات صوتها عندما فتحت الباب لها. كانت باسمة. ماذا كانت ستفعل لو كنت مددت يدى وتحسست ساقها العارية عندما انحنيت أمام الخزانة؟
غادرت الفراش. عدلت عن مواصلة العمل على الآلة فى تقرير للأستاذ المشرف على برنامجى. غسلت أسنانى ووجهى وأعددت شايا. جاء ماريو وذهب. أما القرغيزى فلم يظهر. أمسكت بكتاب عن الإسكندر الأكبر. ثم خرجت إلى الحانوت. لم تكن هناك فودكا لأنها لا تباع بعد السابعة مساء. اشتريت زجاجة شمبانيا ثمنها76.4 روبل. ورغيف خبز. عدت إلى الحجرة. وجدت فريد وحميد فى انتظارى.
مرت هند علىّ فحملت الزجاجة ونزلنا جميعا إلى الطابق الثالث. كانت عراقية بيضاء على غير المألوف من مواطنيها. انضم إلينا صديقها الروسى كوليا عند الطابق الثالث. مضينا إلى الخارج كموكب حزين. ركبنا الباص ووضعت ثمن البطاقة فى الصندوق المخصص لذلك. تجاوز كوليا الصندوق دون أن يدفع وقال لى إنه عادة لا يدفع فلا بد من الحياة على مستوى التلمذة. وقفت عندمدخل الباص فطلب منى روسى ممتلئ أن أتنحى قليلا. فعلت مدركاً خطئى سعيداً بالابتعاد عن هند وصديقها. وقفت أمام جالسة روسية فى الخمسينيات، ذات أسنان ذهبية وشعر مصبوغ. كانت تقرأ كتابا من الشعر. وبجوارها طالب أفريقى يحمل أسطوانة لأغانى جيمس براون. خاطبنى الروسى مرة أخرى وطلب منى أن أبتعد إلى مؤخرة الباص ففعلت. تأملته يقرأ كتابا باهتمام وفى يده شنطة بها عدة علب من مسحوق الصابون.
انتقلنا إلى المترو وجلست بجوار هند. سألتها عن سنها. قالت: 32. دار الحديث عن مصر. سألتنى وهى تقضم أظافرها فى شىء من الخجل عن آخر مرة كنت فيها هناك. ذكرت لها كيف كان انطباعى سلبيا. قالت إنها مرت بالإسكندرية فى باخرة ورفضوا إنزالها لأنهم شكوا فى أنها فلسطينية لكنها لاحظت قذارة المدينة. قلت إنها كانت نظيفة فى الماضى عندما كان بها أجانب ثم وسخناها عندما خلصت لنا. غادرنا القطار فى محطة كوتوزفسكايا، الحى الذى يسكن به كثير من الأجانب والدبلوماسيين. سرنا وسط أسطوانات الزجاج والألومنيوم التى شكلت ديكور المحطة. عبرنا إلى الناحية الأخرى من الطريق وأخذنا الباص. نزلنا إلى جوار كنيسة تدق أجراسها. مضيناً إلى جوار أبراج سكنية حديثة من عشرة طوابق أو 15.
استوقفنا شرطى مستفسراً عن وجهتنا. ذكرت له هند اسمها. سألها عن موطنها. أشار إلى كوليا الذى لزم الصمت. قلت له إنه لا يملك الحق فى أن يسألنا. قال: بالعكس. ثم تراجع وابتعد.. تقدمنا من إحدى البنايات. كان الباب الزجاجى مغلقاً لا يفتح إلا لمن يحمل مفتاحا أو يعرف رقم تليفون الشخص الذى يقصده ويدير الأرقام الأربعة الأخيرة منه فوق لوحة خاصة.
فعل فريد فانفتح الباب أوتوماتيكيا. ارتقينا المصعد إلى الطابق الرابع. استقبلتنا الأرضية الخشبية اللامعة وفوقها وليد مرحبا. كان فى حوالى الأربعين، ممتلئ الجسم خفيف شعر الرأس، خلعنا أحذيتنا ومعاطفنا. ولجنا صالة ضيقة تحوى باب شرفة ومكتبا ازدحم بالكتب والأوراق والتليفون يواجه مكتبة حاشدة. وفى الجانب الآخر مائدة حفلت بأطباق المزات السورية: المكدوس والحمص والطحينة والثوم والملفوف وغيرها. كانت زوجته لمياء سمراء ممتلئة فى الثلاثين ذات عينين ضيقتين فى وجه شاحب حزين. قالت لى إن زوجها هو الذى أعد المزات بينما كانت مشغولة بطفلتهما البالغة من العمر سبعة شهور. سألتنى لماذا لم أحضر مادلين معى. وأضافت أنها قابلتها فى العيادة الطبية وأعجبت بها. جلسنا حول المائدة وفتح كوليا زجاجة الشمبانيا. شربنا نخب الطفلة ثم صب وليد فودكا لنا. علق على موقف الشرطى قائلاً إنه يملك الحق فى منع أى روسى من دخول العمارة لأنها مخصصة للدبلوماسيين والصحفيين الأجانب، ولا بد من الحيولة دون الروس والاتصال بهم. ثم دار الحديث عن أنواع الجبن وقال كوليا إنه يعبد الروكفور وأخذها معه مرة لأمه فى قريته فى بيلاروسيا وكادت تلقى بها فى الزبالة من رائحتها. أشار وليد إلى الجبن الموجود على المائدة، وقال إنه نوع جيد يدعى سوفيتسكى وثمنه 4.30 روبل وإنه لم يعثر على نوع آخر أغلى منه. قال فريد إنه يفضل جبن روسسكى. انفرجت ملامح كوليا الجامدة وقال ضاحكاً إنه يفضل روسيا على الاتحاد السوفييتى. أحضرت لمياء طبقا من اللحم البارد. وجهت الحديث إليها متسائلا عما تفعل. قالت إنها تعمل بالتدريس فى مدرسة أبناء الدبلوماسيين العرب وتعود فى الخامسة مساء منهكة لتقوم بشغل البيت. سألتها فى خبث: ألا يساعدك وليد؟ قالت فى استنكار إنه مشغول دائما بمقابلات لا تنتهى: سهيل إدريس، مصطفى الحلاج وقبلهما إميل توما ومحمود درويش ولطفى الخولى وأمس سهر مع إميل حبيبى، وكان هناك مؤتمر المسرح العالمى وهو يستعد الآن لمهرجان السينما فى الشهر القادم. رد عليها فى هدوء إنه يقوم بمقابلات مفيدة وإنه يعد عدداً من الدراسات سيستفيد منها الجميع. أردت أن أغير مجرى الحديث فسألته عن فيلم المخرج الجورجى يوسيليان «عاش طائراً مغرداً» فقال إنه لطيف ولكن به عيوب فكرية. وقال إنه يعرف المخرج شخصياً. قال حميد إن فيلمه الثانى المعادى لستالين كان ممنوعاً من العرض منذ إخراجه عام 36 والمفاجأة أنه يعرض الآن فى الدور الصغيرة. قال وليد إنه كان مع مخرجه منذ أيام وأبلغه بذلك فأخذ المخرج مجموعة من أصدقائه وذهبوا لمشاهدته، فوجد أن السلطات قطعت منه أجزاء. سأل إذا كان أحدنا قد رأى فيلم بازولينى «أوديب ملكا». ومضى يقول دون أن ينتظر الإجابة: إنه لاشىء فقد تراجع عن مرحلته الأولى وبدأ يهتم بالطقوس الدينية. اعترض فريد فلم يعبأ به واستطرد قائلاً إن مسرحية فايدا البولندى عن فيتنام تقدم الآن على مسرح تاجانكا، وإنه - أى فايدا - أخرج هاملت بصورة جديدة، إذ جعل منظر الموت فى ضوء ساطع على مسرح بغير ستارة بدلاً من الظلام الذى كان يستخدمه المخرجون الآخرون عادة. غمس أصابع الملفوف فى مزيج الخل والزيت والتهمها فى شراهة.
دق جرس التليفون. تمنيت لو جاء أحد: واحد وزوجته أو فتاتان. انتهت المكالمة بموعد للقاء فى الغد. تكرر التليفون وفى هذه المرة فهمت أن شخصاً سيأتى مع زوجته وصندوق بيرة ستلا المصرية. سألت وليد: كيف حصل عليها؟ قال: موجودة فى كثير من الأمكنة، الاتحاد السوفييتى يقبل من مصر أى شىء مقابل ديونها.
جلست أنتظر وعينى على الباب وأذنى على صوت المصعد متصنعا عدم الاهتمام. وأخيراً وصل الرجل وزوجته: خنزير أبيض وخنزيرة بيضاء فى بنطلون. أخذ وليد على جانب وأعطاه حفنة دولارات. وأعطاه وليد بالمقابل روبلات. التفت إلينا وهو ممسك بالدولارات: لو أحدكم يريد استبدال دولارات أنا فى الخدمة. دار الحديث مرة أخرى عن موقف الشرطى. ودافع وليد عن حق السلطات فى منع الاتصال بالأجانب. واستعرض عدداً من طلبة المعهد السوريين ووصفهم بأنهم طور الله فى برسيمه. علق حميد على رداءة بعض المصنوعات السوفيتية وتخلفها فى الشكل الخارجى بالمقارنة مع المنتجات الغربية. شعرت كما لو كان يوجه حديثه إلى وليد. علقت قائلاً السبب هو انتفاء المنافسة فى السوق، لكنها تتميز بالجودة. قال: أى منتج يتعين على الناس أن تشتريه لأنه لا يوجد بديل له. قلت: ليس البديل أبداً هو المنافسة الرأسمالية. رحب وليد بكلامى. أحضرنا زجاجات ستلا وأخرج سمكة مجففة أعطاها لكوليا فقشرها وهو يتعبد فيها ويحكى لنا طرق استخراجها وكيف أن أباه أكل مرة واحدة على مدى شهر كامل لأنها لا تباع فى الأسواق ولا توجد إلا فى حوانيت البريوسكا، التى تتعامل بالعملة الأجنبية. استمتعت بقطعة صغيرة منها مع البيرة. احتكر وليد الحديث مرة أخرى. واستأذنت زوجته لتنام. بعد قليل شرعنا فى الانصراف. احتضن وليد هند وطلب منها أن تقبله فى خده. ثم انفرد بصديقها فى جانب وتبادلا حديثا خافتاً. ثم أصر أن نشرب المزيد من البيرة.
واستبقى الضيف الذى أحضرها لأنه يريد الحديث معه فى أمر هام. غادرنا الشقة. ومررنا بالشرطى فى الكشك المخصص له. تحدثنا بالعربية بصوت عال. شكا كوليا من حموضة فى معدته. واحتضنته هند فى دلع حتى ركبنا الباص. وقفت إلى جوار حميد فسألته هامساً: ألا يخشى وليد شيئاً عندما يقوم علنا باستبدال الدولارات؟ ضحك قائلاً: عمليات الاستبدال تتم تحت رعاية الـ«ك. ج. ب»، المخابرات، لأن الدولة تحتاج إلى الدولارات.
(10)
عاد جلال الدينوف بمفرده. قال إنه استأجر غرفة فى منزل قريب وستقيم ناتاشا معه. وقال إنه سيحتفظ بفراشه فى حجرتنا وعلينا ألا نذكر شيئا عن مبيته فى الخارج، فليس مسموحاً الإقامة خارج بيت الطلبة واتخاذ مسكن مستقل.
(11)
م أنم جيداً بسبب ضجة مهولة طول الليل فى غرفة البنات فوقى. وفى غرفة خليفة المجاورة ظلت الموسيقى الراقصة دائرة حتى الرابعة صباحا. وكنت أتهيج عندما أفكر فى زويا فيؤلمنى قضيبى. تصورت أننا بمفردنا وخرجنا سوياً ثم صار جسمها النحيف بين ذراعى وأنا أنظر إلى عينيها.
حملت زجاجة لبن فارغة إلى المغسل لأملأها بالماء وأغتسل بها بدلا من ورق التواليت الخشن. كان خليفة السنغالى يقف أمام آخر حوض فى الركن. وشرع يغتسل وإذا به يخلع سرواله ويبرز قضيباً كبير الحجم ثم يضعه تحت صنبور المياه ويغسله وهو ينظر إلىّ مزهوا.
قررت العمل على الآلة الكاتبة. حملتها لأضعها على المائدة فوقعت على الأرض وتحطم سطحها البلاستيكى. وضعتها جانباً فى غضب. وفد حميد وهون علىّ. خرجنا سوياً وشربنا بيرة روسية بلا طعم فى البيفسايا، صالة البيرة، المجاورة. حكيت له عن معاركى مع زميلى حلمى عبدالله الانتهازى عضو الاتحاد الاشتراكى الذى نافسنى فى حب زميلتنا جمالات وفاز بها (راجع رواية «امريكانلى»). قابلنا بشار عند عودتنا فقال إنه اشترى لحماً جيداً من البريوسكا، ودعانا للأكل. كان سوريا متوسط القامة ينسدل شعر رأسه الناعم حتى كتفيه على الطريقة الغربية.
(12)
أعددنا صينية فى الفرن وضعناها فى مطبخ الطابق الأول وجلسنا أمامها كى لا يسرقها أحد. أكلنا فى غرفة السوريين مع بقايا زجاجة نبيذ. وانضم فريد إلينا. قال إن إسرائيل قامت بغارات جوية على سوريا استمرت ثمانى ساعات وإن زويا أحضرت كتابا لحميد منذ ساعة ثم اختفت. صعد هانز إليها ليدعوها فلم يجدها. أكلنا وشربنا فودكا بعد أن انضم إلينا عباس العراقى- العائد لتوه من بلده - وجان اللبنانى وهيلين اليونانية صديقة بشار. كانت ترتدى جوبة قصيرة للغاية كشفت عن ساقين بديعتين أشعرنى جمالهما بالحزن. ظلت صامتة بينما دار الحديث بالعربية. استفسر حميد من عباس عن طالب عراقى أنهى دراسته بالمعهد وعاد إلى العراق فقال: ماكو. عاد يسأله: وعبدالجبار؟ قال: ماكو. سألته عما يعنى، فمر بأصبعه على رقبته دون أن ينبس. ذكر أن البعثيين قبضوا على أحد قادة العمال واغتصبوا زوجته وسرقوا أمواله ثم أجبروه على ممارسة الجنس مع غلام وصوروهما، ثم هددوه بفضحه بين العمال فخضع لطلباتهم. وقال إن صدام حسين بدأ حياته السياسية زعيما فى الثانوى لإحدى فرق الإرهابيين المسلحة أثناء مطاردة الشيوعيين بعد سقوط عبدالكريم قاسم. سألته عن المؤامرة التى وصفتها الصحف السوفييتية بأنها مخطط إمبريالى ضد حكم البعث الوطنى. فقال إنها ملفقة ومحاولة لاصطياد الناصريين وإن الاتحاد السوفييتى يؤيد البعث فى الحق والباطل. سأله فريد عن كيفية اعتراف عزيز الحاج زعيم التنظيم الشيوعى المتطرف. قال إن السلطات البعثية أعدمت عددا من رفاقه أمامه واحداً بعد الآخر بعد تقطيع أجسادهم وخاصة أعضائهم التناسلية. وتحدث عن تفاصيل محاولة اغتيال البارزانى، زعيم الأكراد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة