هذه الأيام تحدث أمور غريبة، نرى ونسمع فيها ما تحتار فيه العقول والألباب، ويثير الدهشة والاستغراب، ويثير أيضا الحزن والغم، لأنها مؤشرات على معان كثيرة ذات أبعاد قلبية وعقلية.
من بين هذه الأمور الغريبة والمحيرة الانفصام بين الفكر والفعل والخلط بين القلب الذى يعتبر مركز العاطفة الراقية والنقية، وبين الرغبة بكل صورها التى من بينها المادى الصرف والمنحط والمحدود والمدمر والقاسى.
كنت ذات يوم فى إحدى عربات المترو، وكان هناك ثلاثة من الشباب الأصحاء، وأكاد أقول مفتولو العضلات، وكان كل واحد فيهم قد جلس وفى يده قرآن صغير الحجم، وأخذ يقرأ فيه، ويرفع رأسه من حين لآخر لينظر إلى الركاب وكأنه يطالع جريدة أو مجلة، وهذا لأنه لم يظهر على وجوههم السكينة والخشوع أو التأثر بما يطالعون، بل كانوا يتابعون ما يجرى فى عربة المترو بكل يقظة ،«ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه» إن قراءة القرآن تستلزم استحضار كل الخشية والجلال لهذا الكلام المنزل على خير خلق الله، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، الكلام الذى وصفه الله سبحانه بقوله «سنلقى عليك قولا ثقيلا».
وكان جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصبب عرقا عند التنزيل، ويثقل جسده من الجلال ومن الرهبة، حتى أنه ذات يوم قال واصفا هول الكلام المقدس الربانى «لقد شيبتنى هود وأخواتها....»، وهؤلاء يجلسون وقد وضع أحدهم ساقا على ساق، أو لصق آخر ساقه بساق جارته الجالسة إلى جواره، وكأنه لا يقرأ هذا القرآن الكريم المقدس، بل يقرأ كتابا يسليه حتى يصل إلى محطته.
وفى ذات الوقت وقف ثلاثة من كبار السن فى جوانب العربة وفى وسطها، وقد بدا عليهم التعب من الوقوف، رغم أن على جدران العربة كتب أن هذه الأماكن مخصصة لكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، ولكن لم يتحرك أى من الركاب الجلوس، ويفسح مكانا لأى من كبار السن أو يقف ويعطيه مكانه. كل الركاب تغافلوا عن كبار السن الذين يجلسون هم مكانهم فى عربة المترو. إذا كان كل الركاب يتصفون بالأنانية وحب الذات على الغير، فأين الذين أمسكوا بالمصاحف. إنهم أمسكوا بها ولكن لم يطبقوها.
فأول مبادئ الإسلام الرحمة بكل المخلوقات وبكل الناس، وخاصة كبار السن والضعفاء . فإن الثلاثة لم يتحرك فيهم ساكن ليساعد كبار السن. هل قراءة القرآن فى المواصلات العامة هى منظر استعراضى لا يحمل فى طياته أى مضمون. إن السنة النبوية الشريفة تحث على تعانق الكبار والصغار وكل واحد منهم يعطى الآخر الاحترام والحب والخبرات، فيتكامل المجتمع وجدانيا وفكريا.
القول باللسان ليس هو الهدف، ولكن كما قال سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الهدف هو «ما وقر فى القلب وصدقه العمل» وقال أحد العارفين: إن الله إذا غضب على عبد حرمه من متعة الذكر، وجعل ذكره باللسان فقط دون أن يصل إلى القلب الذى يجب أن ينتشى بذكر ربه ويعرف متعة القرب. وإن من القرب ومن الذكر اتباع القدوة النبوية الشريفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة