كان، رحمَه الله، كلما رآنى وقد أخذنى القنوطُ، مما وصلت إليه مصرُ ونزل إليه المصريون، يبتسمُ ابتسامته المشرقةَ الشهيرة، تلك التى خلّدتها الصحفُ والتصاوير. تفاؤله بغَدٍ أفضلَ لمصرَ وحالٍ أفضل للمصريين، هو سرُّه الميتافيزيقى الخاص، الذى ذهب معه إلى الأبد. ذلك التفاؤلُ كان طوقَ النجاة أمام تشاؤمى المستطيل.
«لمَن نكتبُ يا أستاذ؟» أسأله. فيجيبُ: «لكلِّ المصريين، المصريون من أجمل شعوب الأرض». أعاودُ: «نعم، لكن لأية شريحةٍ منهم؟ المثقفون المستنيرون لا يحتاجون كتاباتنا، والظلاميون الجهلاء يرفضونها، والبسطاءُ ينجرفون وراء الصوت الأعلى، وليس أعلى صوتًا ممن خَوَت عقولهم من الظلاميين الغيبيين. يتوعدون الناس بالويل والثبور إن لم يستعيروا عقولهم، ويقصفون أقلامنا ويهددون حياتنا، فيخافنا الناسُ وينفضّون من حولنا، ومن حول كلِّ نور يلمع فى الأفق! فلمَن نكتب إذًا؟ لابد أن نتوقّف عن الكتابة، ونكتفى بالفُرْجَة والحسرة على مصرَ، وهى تتحلّل بين ناظرينا، مثلما يكتفى الجميع بالفرجة، بل وبالمشاركة فى هدمها أيضا من قِبل البعض». يربتُ على كتفى ويشرقُ وجهه بابتسامةِ محبةٍ وإشفاق: القنوطُ رفاهٌ وترفٌ لا يليقُ بكلِّ صاحب قلم يا ابنتى!، أنتِ وأنا وسوانا ممن لديه رسالةُ تنويرٍ ليس من حقّه أن يترك قلمَه ليتفرج، اليأسُ، رفاهيةٌ لا يمتلكها المثقفُ العضوىّ!» إنه المفكر المصرىّ الجميل، الذى طار قبل شهور وتركنا لمصيرنا، محمود أمين العالم.
»لكنهم يا أستاذنا، الظلاميين أولئك، يظنون أن الشيوعيةَ سُبّةٌ، وحتى الليبرالية سُبّةٌ، والتطور والتحضر والمعاصرة والاستنارة والخروج من نفق الماضى كلها مَسبّاتٌ ومثالبُ. بل والعلمانية يظنونها تعنى الانحلال وانعدام الخُلُق وعدم احترام الدين، تصور! بل إن أحدهم، والله العظيم يا أستاذ، يظن أن ثمة شخصًا اسمه «علمان»، ومؤيديه، من ثَم، اسمهم «بنو علمان»، تصور! تصور!« فيبتسم العالم الجليل لغضبتى ويقول: «وإذًا ماذا تنتظرين من هؤلاء؟ إن كانوا متعثرين عند فهم المصطلح، مجرد المصطلح، أيغضبكِ هؤلاء؟» فأقول بحماسة من ظفر بمغنم: «أرأيت؟ فلمن نكتب إذًا؟» لكنه يردف بهدوء: «وهل تظنين أن أولئك هم متنُ المصريين النبلاء؟ هؤلاء يا ابنتى لهم الله، هم على عيونهم عِصاباتٌ فلا يرون، وفى أفواههم أبواقٌ تردِّدُ أقوال سواهم، وداخل عقولهم قِطَعُ أسفنج تمتصُّ الغَثَّ وتفرز الغَثَّ. ووظيفتنا نحن أن نحمى الآخرين من تضليلهم، قبل أن يغتصبوا عقولهم ويدخلوا بهم إلى نفقهم المُظلم، حيث لا عودة».
«لكن فى يدهم يا أستاذ محمود سيفًا مُشْهرًا دائما مُصوَّبًا نحو نحورنا، وكارتًا باليًا لا يسأمون من استخدامه ضدَّ كلِّ قلم يروم الاستنارة». فيسألنى ولم تبرح الابتسامةُ وجهَه: «ما هو؟» وأجيب: «إطلاق الكلام على عواهنه من قبيل: هذا الكاتبُ له أجنده أمريكية، هذا الكاتب عميلٌ صهيونىّ، هذا الكاتبُ يقبض من الغرب!» فيضحك الأستاذ بمرارة: «كأن الغربَ راكدٌ خاملٌ لا يعمل، وخائفٌ من تطورنا وسيادتنا العالمَ فيدسَّ بيننا العملاءَ لكى يعرفوا منّا سرَّ حجر الفلاسفة! الغربُ يا بنتى يعملُ فى صمت، ونحن نتكلم.
هم يخترعون ويبدعون، ونحن نستهلك ونسىء استخدام ما صنعوا للبشرية. اخترعوا الحاسب الآلىّ لكى يتحكمَ الإنسانُ فى المعلومة وينتجَها ويصدّرَها ويتوسلَّها، ونستخدمه نحن للتبذّل والدردشة والمزيد من تفريغ العقل. صنعوا الهواتف ذات الخلايا لحل الأزمات العاجلة، فاستخدمناها نحن فى إرسال رسائل مغازلة فى شريط متحرك فى قنوات التليفزيون! وآلاف الأمثلة الشبيهة».
وشعرتُ أننى نجحتُ فى أن أجذبَ الأستاذَ إلى منطقة قنوطى، وابتهجتُ قليلا لأننى سأتقوى بيأسه على يأسى. لكنه يفاجئنى بطاقة التفاؤل التى لا تنضب منه أبدًا، لأنه جميل ويأبى إلا أن يرى العالمَ جميلا ومحبوبته مصرَ فاتنةً تحت أى شرط وأى ظرف. قال: «المصريون جُماع أعراقٍ وحضاراتٍ مستحيلة. لا مواطنَ فى كلِّ العالم يشبه المواطنَ المصرىّ. المصرىُّ تعاقبت عليه ثقافات ودياناتٌ ومواريثُ تاريخيةٌ معقدة شديدة التركيب.
لذلك اكتسب قوةً وصلادة، عزّ أن تجدى مثيلا لها فى كافة أرجاء الكون. ما ترينه الآن هو العابرُ المتغيّرُ، لكن ثمة خيطًا من الأصالة يسبح تحت العمق فى شريان كل مصرىّ. هذه الأصالة سوف تنجّيه كما نجّته دومًا. وهى رهانُ المثقفين على بقاء مصر، رغم ميراثها الثقيل من حكوماتٍ ظالمة تعاقبتْ وتتعاقبُ عليها. سوف تشهدين أنتِ وجيلُك، أو على الأكثر الجيلُ اللاحق مصرَ وقد عادتْ كما كانت. هكذا يقول التاريخ. ثمة لحظاتُ انحطاط تمرُّ بها الشعوب، تشبه لحظتنا الراهنة، لكنها تتحول وتتبدل، ثم ينجلى الجوهرُ الناصع للطينة المصرية الأصيلة».
هذا حوارٌ تخيلىٌّ، إلا قليلا. هو زادى وزوّادى كلما ألمَّ بى الحَزنُ والقنوط. لم يتم هذا الحوار بينى وبين الأستاذ فى جلسة أو فى جلستين. بل هو جُماع أحاديثَ طويلةٍ تمّّت بيننا. أكتبُه الآن، لى، أولاً، لكى أُخرجه من حيّز الذاكرة المراوغة، إلى حيّز الورق الموثّق. من أجل أن أعود إليه كلما انكسرتُ. أستاذى الجميل، نَمْ مستريحًا باشًّا مبتسمًا مثلما كنتَ دائمًا. فمصرُ باقيةٌ بإذن الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة