◄على الرغم من حبى لأيمن نور واحترامى لسعد الدين إبراهيم فإن أحداً منهما لا يمكن أن يصبح معادلاً لمصر.. لا هما ولا أى أحد آخر مهما كان حجمه أو كان قدره وعطاؤه وكانت قيمته ومكانته وفى أى مجال من مجالات السياسة أو الحياة
فى برنامج تليفزيونى جديد على شاشة قناة المحور بعنوان 48 ساعة، تابعت أحمد أبوالغيط، وزير الخارجية، وهو يجيب عن أسئلة صاحبى البرنامج، سيد على وهناء السمرى، بشأن الأسلوب الذى سيتعامل به مع أفيجدور ليبرمان كوزير خارجية جديد لإسرائيل.
فقال أبوالغيط إنه كوزير لخارجية مصر، عليه أن يحترم الكبرياء المصرى، وبالتالى فكل من أساء للكبرياء المصرى عليه أن يتحمل مسئوليات وعواقب ذلك، ولهذا فإن أبوالغيط سيكتفى بوضع يديه فى جيوبه إذا ما تصادف وجوده فى مكان واحد مع ليبرمان حتى لا يضطر لمصافحته.
ولأن التصريحات التليفزيونية لوزير الخارجية جاءت بعد أيام قليلة من تسريب - كان متعمداً ومقصوداً - لمطالب مصر أو شروطها لمشاركة الرئيس مبارك فى القمة العربية الأخيرة فى الدوحة، والتى تلخصت فى أن تتوقف قناة الجزيرة عن انتقاد الإدارة المصرية، وتتوقف الحكومة القطرية عن دعم أيمن نور وسعد الدين إبراهيم، فقد بات واضحا أن الأداء الدبلوماسى المصرى فى حاجة لضبط ومراجعة، وترتيب ضرورى للأوراق وتفصيل جديد للحدود. وأنا أعلم جيدا أنه صعب جداً أن يتطوع رجل بتقديم نصيحة لرجل آخر لم يطلبها منه، ويزداد الأمر صعوبة لأن نصيحتى لأحمد أبو الغيط لن توافق هواه، وربما تتعارض مع مصلحته كما يراها هو، وتصبح الصعوبة بالغة إن جاءت هذه النصيحة فى ظرف معقد يتوقع كل طرف من أطرافه أن يسانده الآخرون لا أن يناقشوه، أن يدعموه بالتأييد والإشادة وليس بالرأى المخالف أو النصيحة المربكة. وقد تفهمت أولا كل ذلك، وتخيلت أن مكان هذا الحديث ليس فوق هذا الورق، وإنما من الأفضل أن يكون أثناء مشاركة أبوالغيط للمشى حول أسوار نادى الجزيرة كما سبق أن تفضل هو ودعانى لهذه المشاركة كلما أردت أو كلما استطعت، إلا أننى عدت واقتنعت بأن الأمر تجاوز حدود الخصوصية، فالشروط المصرية لحضور الرئيس مبارك لقمة الدوحة إنتشرت فى كل مكان. ووزير خارجية مصر وكبير دبلوماسييها ظهر على شاشة التليفزيون ليؤكد أن يده المختبئة فى جيبه هى الرد الوحيد، الممكن والمتاح، الذى تملكه الدبلوماسية المصرية على كل تطاولات ليبرمان ونزعاته العدائية والغوغائية.
وقبل هذا الحديث الضرورى والتساؤلات بالغة الحساسية والأهمية عن العلاقة والرابط بين تلك الشروط لحضور قمة، ويد الوزير وجيبه، فلابد من التوقف أولاً عند تلك الشروط نفسها التى تحدثت عنها القاهرة وقامت الدوحة بتسريبها. ولأن الخارجية المصرية لم تنف هذه الشروط ولم تقم بأى تعديل أو تصحيح لما قامت الدوحة بتسريبه، فقد بات ملزما لى وللجميع أن نتعامل مع هذه الشروط باعتبارها واقع ما جرى، والحقيقة التى أدت إلى اعتذار الرئيس مبارك عن عدم المشاركة فى القمة. وبالتأكيد أزعجنى جدا أن نصل مرحلة تشترط فيها مصر ضبط أداء قناة تليفزيونية وعدم الاحتفاء باثنين من المصريين كشرط لحضور رئيسها لقمة عربية. ومن المؤكد أنه لم يكن لائقا أن تطلب مصر ذلك وهى الشاغلة دوما - بحكم المكانة والتاريخ والعطاء- مقعد الكبير على الساحة العربية، فما هكذا يتصرف الكبار وليست هذه هى شروط الكبار أو مطالبهم. ومن المؤكد أن الذى تطوع بوضع هذه الشروط، وتطوع بنقلها والتفاوض عليها، غفل تماما عن أن كل خطوة فى هذا المجال كانت تنتقص من قدر مصر وحجمها ودورها.
وإذا كان أحمد أبوالغيط قد حاول تبرير ذلك فيما بعد، مشيرا إلى أن قناة الجزيرة أعلنت الحرب الإعلامية ضد مصر أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة، واستمرت الحرب الإعلامية بشكل آذى مصر، فإن هذا التبرير كان آخر ما تحتاجه مصر وإدارتها وخارجيتها وأول ما تحتاجه قناة الجزيرة وأصحابها.. فمصر على حد كلام وزير الخارجية وتبريراته وفلسفته ورؤيته باتت هى الدولة الهشة التى تزعجها قناة تليفزيونية.باتت هى الدولة التى ليست حرة فى أن ترسم سياساتها وراء الأبواب المغلقة فى مكاتب كبار قادتها ومسئوليها، وإنما هى الدولة التى تتحدد برامجها وتتخذ قراراتها وخططها استناداً إلى شاشة تليفزيون وعبر برامج الهواء والمداخلات التليفونية. ولأننى أثق أولا فى أن بلدى ليست كذلك، وأغار عليها ثانيا ولا أحب لها بالقطع أن تكون كذلك، فقد كنت أتمنى لو يشاركنى وزير خارجية مصر هذه الرغبة والغيرة وهذا الإيمان والاقتناع، ولابد أن وزير الخارجية لا يعلم أنه فى أى صراع يحتدم بين صحفى وحكومة، فالرابح بالتأكيد هو الصحفى وليست الحكومة، وأى حرب بين قناة تليفزيونية ودولة، فالدولة هى التى ستخسر هذه الحرب أيا كانت أشكال وتداعيات وملامح هذه الخسارة. فالدولة لا تتصارع ولا تخوض حروبا إلا مع نظائرها من دول أخرى، وليس مع أفراد أو هيئات أو صحف أو قنوات تليفزيونية أيا كانت نسبة مشاهدتها ومساحة انتشارها وحجم تأثيرها. وألا يشارك رئيس مصر فى قمة للعرب، وأن يجتمع العرب فى قمة للمصالحة ولا تحضر مصر، وأن يبدأ رئيس أمريكى جديد عهدا وفكرا جديدا وحسابات جديدة وتتطوع مصر لتؤكد له ضمنا أنها لم تعد قائدة ولا مسيطرة ولا حتى حاضرة، وكل ذلك بسبب بعض برامج وكلمات ومشاركات على شاشة قناة تليفزيونية، فهذا هو منتهى النجاح لقناة الجزيرة وأى قناة تليفزيونية، وهو أيضاً اعتراف مصرى رسمى بأن قناة الجزيرة باتت موازية فى القوة والمكانة لأى دولة عربية، وأنهم فى القمم العربية المقبلة سيخصصون مقعدا إضافياً لا لدولة عربية جديدة وإنما لقناة تليفزيونية عربية اسمها الجزيرة.
وأنا بالمناسبة، لا أدافع عن قناة الجزيرة، ولا أنكر أن قناة الجزيرة أثناء الحرب على غزة شاب أداءها كثير من التجنى على مصر.. ولكننى لست كوزير خارجيتى سأقضى وقتى وأبذل جهودى داعيا قناة الجزيرة لأن تسكت، لأن مصر أكبر كثيرا وجدا من أن تطلب ذلك من أى قناة سواء فى العلن أو حتى فى السر، ولأننى كمصرى قادر على الرد إعلاميا وليس سياسيا.
فالقناة التى تزعجنى، أملك أنا كفاءات قادرة ليس فقط على أن ترد عليها وإنما قادرة أيضاً على إزعاجها وإزعاج كل الذين وراءها، أملك عقولاً وخبرات إعلامية قادرة على أن تخوض أى حرب أو مواجهة ومع أى أحد. ولو كنت وزيرا لخارجية مصر، لكانت نصيحتى الدبلوماسية بحكم منصبى للرئيس فى بلدى بأن يذهب إلى الدوحة، أو لا يذهب لأسباب أخرى توازى قيمة الدولة وحجمها ومكانتها، وكنت بعدها سأجتمع بوزير الإعلام وأبحث معه الأمر سياسياً واقتصادياً وكيف وبأى شكل يمكن لمصر أن تمتلك القناة التى تسرق الوهج والسبق الإعلامى من الجزيرة، وكنت مع وزير الإعلام وبشكل غير معلن بدأنا نتفق على هذه القناة المصرية الجديدة وفى حساباتنا ميزة حقيقية يملكها الرئيس مبارك ولم يملكها بعد أى رئيس أو ملك أو حاكم عربى.فالرئيس مبارك وفقا لحسابات الإعلام المصرى وقواعده الحالية، لم يعد الفرعون الذى لا يمكن أن يطاله أو يحاسبه أو ينتقده أحد، ولم تعد هناك للرئيس مبارك حصانة زائفة كان يحرص عليها ويستمتع بها من سبقوه فى حكم مصر.
وبالتالى فلم يعد هناك ما يخشاه الرئيس فى مصر بعكس الحال فى كل البلدان العربية المجاورة، سواء على شطآن الخليج أو شطآن البحر المتوسط أو البحر الأحمر، ومن الممكن وبحد تعبير وزير خارجية مصر أن تعلن قناة الجزيرة الحرب الإعلامية على مصر، ولكن لماذا لا ترد مصر بنفس السلاح وفى نفس المجال وبنفس اللغة؟ لماذا لا أصبح وزيرا للإعلام المصرى وأجعل الآخرين هم الذين يشكون للرئيس مبارك من الملفات الشائكة التى ضاقوا بها وعجزوا عن تحملها وجاءوا يطلبون من الرئيس إغلاقها وبدء صفحة جديدة بدون ملفات أو أشواك أو جروح، وبدون اضطرار للغياب عن قمم حتى لو كانت قمما شكلية وعبثية؟ فهكذا يكون رد الكبار، وانتقام الكبار، ومن الممكن مراجعة السلوك الأمريكى أو الإنجليزى أو الفرنسى أو الألمانى، حيث تعيش هذه البلدان كثيرا مواسم الغضب، ولكنهم لا يعلنون كل غضبهم، ولا تخوض أنظمتهم ودوائرهم السياسية أى حروب خاسرة ضد أفراد أو مستويات أقل ولا ترقى إلى مستوى الدولة وهيبتها، وهم مع ذلك لا يغفلون أمورهم ويجيدون استرداد حقوقهم ويعرفون كيف ينتقمون، ولكن على طريقة الكبار، وليس على طريقة الصحافة القومية المصرية التى لا تزال تعيش دور المرأة الغجرية فى الحارة المصرية،سليطة اللسان ومبتذلة، ومن فرط ما شتمت وتوعدت وصرخت، لم يعد يحفل بصراخها وشتائمها أحد.
وكل ما يمكن أن يقال عن قناة الجزيرة، لابد أن يقال أيضا عن أيمن نور وسعد الدين إبراهيم. وبصرف النظر عن اتفاقى أو اختلافى مع أيمن نور وسعد الدين إبراهيم بشأن كثير من المواقف والحسابات والقضايا، إلا أننى لم أكن أتصور أن يصبح الرئيس مبارك كريما إلى هذا الحد، فيجعل قامة أيمن أو سعد تطاول قامة مصر نفسها، إذ إنه حين يعلن أحمد أبوالغيط أن مصر قامت بتخيير قطر فى أن تبتعد عن أيمن نور وسعد الدين إبراهيم أو لا تستقبل رئيس مصر فى قمة عربية، فهذا يعنى أنه كان اختيارا بين مصر وأيمن نور.. بين مصر وسعد الدين إبراهيم. وأنا على الرغم من حبى لأيمن نور واحترامى لسعد الدين إبراهيم إلا أن أحداً منهما لا يمكن أن يصبح معادلا لمصر، لا هما ولا أى أحد آخر مهما كان حجمه أو كان قدره وعطاؤه وكانت قيمته ومكانته وفى أى مجال من مجالات السياسة أو الحياة.
وأخيراً.. يبقى رد الوزير بشأن يده التى ستكون فى جيبه حين يلتقى بوزير الخارجية الإسرائيلى ليبرمان، فما كنت أحب أن يتطوع وزير خارجية مصر بإجابة هو أول من يعرف أنه لن يستطيع الالتزام بها، ولا أريد أن أحرج وزير الخارجية الذى أحبه على المستوى الشخصى وأقول له إنه فى أول زيارة سيقوم بها ليبرمان للقاهرة وفى أثناء لقائه مع الرئيس مبارك، سيصافحه أبوالغيط وسيستقبله قبلها فى مطار القاهرة وسيشاركه أيضا طعام غداء أو عشاء. وأنا واثق من أن وزير الخارجية يعرف أن الصراعات الدبلوماسية تختلف تماما عن خلافات الموظفين الصغار فى المكاتب والمصالح الحكومية أو حتى الشركات الخاصة، فهناك ممكن جدا أن يقرر أحد الموظفين مقاطعة زميل له بدون تحية صباح أو مساء وبدون مصافحة أو سلام أو كلام طيلة ساعات العمل،أما فى الدبلوماسية فليس هناك شىء من ذلك، ثم إننى أريد أن أسأل أحمد أبوالغيط وسأنتظر منه إجابة واضحة ومحددة، فالرجل قال إن ليبرمان أساء للكبرياء المصرى، وبالتالى هو لن يصافحه إذا حدث يوما أن التقاه. فمن الذى أقنع أبوالغيط بأن عدم مصافحته لمن أساء للكبرياء المصرى هو رد اعتبار لمصر وإنقاذ الكبرياء المصرى من أى إساءة قد يكون ألحقها به ليبرمان.
وأرجو ألا يغضب منى وزير الخارجية إن قلت له إن الأداء الدبلوماسى الحالى بدائى جدا إلى حد التذكير ببداية وزارة الخارجية فى مصر، بالتحديد فى النصف الأول من القرن التاسع عشر حين قرر محمد على تطبيق شكل الدولة الحديثة على مصر وقرر استعارة النظام الإدارى من فرنسا زمن نابليون بونابرت، فكان هذا الديوان، ديوان الأمور الإفرنجية لتنظيم علاقات محمد على داخلياً وخارجياً، وللاعتناء بشكل أساسى بالتجارة والمبيعات، والنظر فى المسائل المتعلقة بمعاملات الأهالى والتجار.
واستمرت هذه الرؤية لديوان الأمور الإفرنجية حتى ما بعد عصر محمد على، وبقى ديوان الخارجية أحد أربعة دواوين تتشكل منها الحكومات.. ديوان مشغول طول الوقت بمنع الرقيق، ومتابعة المعاهدات الدولية، ومتابعة المطابع الأوروبية والمحلية، أى متابعة ما يقوله الإعلام الأوروبى والمحلى عن الوالى أو الباشا أو ولى النعم، وهذه هى الصورة التى أعادنى إليها أحمد أبوالغيط بحديثه وشكواه وتأففه مما تقوم به وتقوله قناة الجزيرة عن مصر، فعلى الرغم من الدنيا التى تغيرت كل معالمها وقواعدها، لا يزال أبوالغيط يدير وزارة الخارجية بمفهوم النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو متابعة الإعلام والمطابع ولكنه فقط أضاف إليها القنوات التليفزيونية أيضا، وهو ما يعنى أن وزير الخارجية إما يريدنا كلنا أن نعود معه إلى القرن التاسع عشر، أو نستسلم لأفكاره ونلغى وزارة الخارجية ونخرج للعالم بلا خارجية ولا دبلوماسية ولا أى قدرة على أى مواجهة إلا بالغضب والاعتذار والانسحاب.
لمعلوماتك...
◄2004 أصبح أبو الغيط وزيراً للخارجية خلفاً لأحمد ماهر وكان قد التحق بالعمل فى الوزارة عام 1965 وأصبح مندوباً لمصر فى الأمم المتحدة عام 1987
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة