الأستاذ عبدالبارى والد أحد أصدقائى أيام الجامعة، يعيش فى إحدى المدن الإقليمية فى الدلتا، فى الطابق الثالث فى عمارة مساكن شعبية، على باب شقته مكتوب اسمه بخط ثلث جميل ومهنته «من رجال التعليم»، اللافتة مكتوبة بالأسود على نحاس رائق، وكان حريصا على «تلميعها» بعناية، تعرفنا عليه وهو على وشك الخروج إلى المعاش، رجل وقور، مبتسم دائما، يصلى ويصوم، يرتدى ثيابا بسيطة وأنيقة، ويزرع بلكونته الضيقة بأنواع منتقاة من الصبار «بلكونته هى الوحيدة التى بها زرع فى هذه المدينة».
وكان هذا الرجل يحبنا، ويأخذنا إلى مكتبه «الذى سرقه من الشقة» ويطلعنا على هوايته الغريبة، وهى محبة الرقص الشرقى، لقد كان الأستاذ عبده «كما كان ينادى» خبيرا بهذا الفن، لدرجة أنه كان يذهب لمشاهدة الراقصات الجديدات فى الملاهى بنفسه، رغم أنه لا يشرب الكحول، ويمتلك أرشيفا مصورا ويعرف تواريخ الميلاد وسيرة كل راقصات مصر، وكان يمتلك أيضا مكتبة فيديو غنية، تعلم من خلالها أن يكون «مونتيرا»، بحيث يستطيع أن يناقشك فى تحية كاريوكا مثلا، وهو «يشغل» شريطا «تعليميا» يبدأ من بداياتها إلى ما آلت إليه الأمور، لم يكن الرجل «خفيفا» كما يظن البعض، لأنه كان يباغتنا بثقافته الرفيعة والفطرية بين الحين والآخر، فهو على سبيل المثال يعتبر نعيمة عاكف هى الراقصة الأولى، لأنها تتعامل مع جسدها بتلقائية، وأنها تريد أن تستمتع بالرقص أولا، وتعيش معه، لكى تنفض روحها من غبار الطريق، ويرى أنها صاحبة إضافة «نوعية» فى هذا الفن، لأن طموحها لم يرق إلى حلم الرقص فى القصور واستعادة أجواء «ألف ليلة وليلة»، ولأنها لا تعمل عند الجمهور أو «الزبون» الذى يدفع المقابل، ولكنها عاملته كصديق، سيتفهمان معا الحاجة إلى الرقص، الأستاذ عبده «متعه الله بالصحة» كنت أراه نموذجا للمصرى المتسامح المحب للحياة الفنان، الذى يرى أن للبهجة ضرورة، وأن التناغم فضيلة وليس كارثة، وأن الرقص الشرقى فن محترم، قد يستغله كثيرون بابتذال مثلما يتم ابتذال أشياء كثيرة، وأنه سيظل فنا له جمهوره ومستقبله أيضاً، تذكرت هذا الرجل الجميل فجأة عندما علمت أن الأستاذ نبيه الوحش المحامى «المتخصص فى رفع الدعاوى والإنذارات ضد رؤساء وملوك وشخصيات عامة كبيرة وبعض الفنانين والفنانات» رفع دعوى ضد رئيس مجلس الشعب ورئيس الوزراء وبالطبع وزير الثقافة، يطالب فيها بإلغاء الرقص الشرقى فى مصر، فى البداية يجب تقديم تحية «صحفية» لمحمود صلاح رئيس تحرير أخبار الحوادث، الذى اكتشف أن موضوعاً كهذا يصلح أن يكون موضوع غلاف لمجلة معنية بالجرائم وأن يكتب هو الموضوع، وأنه لم يخضع لابتزار الذوق المتشدد «الغريب على المصريين» والذى يتغاضى عن أشياء تخص مصائر الناس «ويتصدر» فى مهنة «الهشك بشك» كما أسماها الوحش فى دعواه، الدعوى سببها أن الراقصة دينا قالت لإحدى الصحف إنها تجاهد لإنشاء معهد للرقص الشرقى يكون تابعاً لمكتب تنسيق الجامعات، ولأن فيفى عبده طالبت هى الأخرى بإنشاء نقابة للراقصات الشرقيات، قال الأستاذ الوحش فى دعواه: «وأنا بالأصالة عن نفسى، وبالنيابة عن جميع شرفاء الشعب المصرى بجميع طوائفهم وانتماءاتهم، أعلن رفضى على الملأ، وأرفض كل ما جاء على لسان الراقصات وسوف أقاتل وأجاهد فى سبيل ذلك حتى النصر التام عليهن، أو الموت الزؤام لعدم ظهور تلك الأفكار».
الوحش هنا اعتبر محبى الرقص الشرقى ليسوا من شرفاء الشعب، وأعطى لنفسه سلطة لم يخولها أحد له، ولست هنا فى حالة دفاع عن الراقصات أو الرقص، ولكنى ضد من يعتبر نفسه وصيا على المجتمع، ومتحدثا باسم الناس دون أن يأخذ توكيلا منهم، وأيضاً مع طموح أى فئة تسعى لإنشاء نقابة ما دام القانون يسمح بذلك، وكنت أنتظر من الأستاذ الوحش ونحن فى هذه الأيام المباركة أن يرفع دعوى ضد وزير الصحة الذى أعلن قبل أيام أن 9 ملايين مصرى مصابون بفيروس «سى» وأن الموضوع «محتاج 40 سنة» باعتباره «معارضاً» للفيروس وليس مسئولاً عن انتشاره، أو يرفع دعوى ضد وزير الأوقاف الذى «أفتى» بضرورة ذهاب المسلمين إلى القدس المحتلة بتأشيرات إسرائيلية لدعم الاحتلال والتطبيع معه، أو ضد المسئولين عن احتلال مصر مكانة عظيمة فى أنفلونزا الطيور، أو ضد من أتوا بعازف إسرائيلى «بيحب الفلسطينيين موت» لتدنيس دار الأوبرا المصرية.. أو.. أو.. وأتمنى أن يفطن الأستاذ الوحش أن الرقص مع الوحوش.. لن يأتى بأفراح.. لأحد!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة